في تبريرات إعلام غربي جرائم الاحتلال الصهيوني

08 ديسمبر 2024
+ الخط -

مر أكثر من أربعمائة يومٍ على عدوان الإبادة الجماعية على قطاع غزّة، ولا يزال الإعلام الغربي، في معظمه، يردّد الأسطوانة ذاتها، التي ترفض إدانة جرائم الاحتلال الصهيوني المروّعة، ليس في القطاع فحسب، بل في كلّ فلسطين وخارجها، قبل حدث 7 أكتوبر  (2023) وبعده. طبعاً، لا جديد في ما يتعلق بعدم حيادية الإعلام الغربي، في معظمه، بل عدم مهنيّته، حين يتعلق الأمر بحامي مصالح الإمبريالية الغربية، بشقّيها الأميركي والأوروبي، الاحتلال الصهيوني، إذ دائماً ما دعم الإعلام الغربي الاحتلال دعماً غير مشروطٍ ولامتناهٍ، وتعامى عن نقد الاحتلال، إلّا ما ندر وصغر، إذ لطالما تغاضى/ همّش الإعلام الغربي في متابعته الشأن الفلسطيني، ومن ثم، شأن الاحتلال الصهيوني، عن مئات التقارير الدولية، والدراسات الأكاديمية، والقرارات الأممية، والحقائق الميدانية، الحالية والتاريخية، في سبيل حماية الاحتلال وتلميع صورته.

نلحظ في التحيّز الحالي مسألتين مهمّتين: الأولى؛ تصاعد قوّة الإعلام البديل، تحديداً الإعلام المستقل والحيادي والموضوعي منه، إذ طوّر الإعلام التقليدي أدواته اليوم كي يستفيد هو الآخر من وسائل الإعلام البديل وتقنياته، عبر تفعيل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والإكثار من الفيديوهات والبودكاستات، والمقالات والتقارير المسموعة وسواها من الأدوات التي أضافتها التكنولوجية الحديثة، والتي تتوافق مع أهواء الجيل الشاب وعاداته. رغم ذلك، تراجع تأثير الإعلام التقليدي مقارنةً بتأثيره قبل سنوات، بل مقارنةً بتأثيره الحالي أيضاً في ملفاتٍ أخرى، فمثلاً يمكن ملاحظة فرقٍ شاسعٍ في تأثير الإعلام الغربي على المجتمعات الغربية في ما يتعلق بقضية أوكرانيا والغزو الروسي، مقارنةً بتأثيره الحالي في ما يتعلق بقضية فلسطين، وعدوان الإبادة الجماعية المستمرّة التي تقترفها قوات الاحتلال في كامل فلسطين وخارجها. مردّ ذلك في رأي الكاتب الانحدار الكبير في موضوعية الإعلام الغربي عند تعاطيه مع القضايا والملفات المرتبطة بالاحتلال الصهيوني، مقارنةً بسواها من القضايا والملفات، في مقابل موضوعية الإعلام البديل، أو على الأقل بعضٍ منه، في تعاطيه مع القضية الفلسطينية، والاحتلال الصهيوني وجرائمه المتكرّرة، نتيجة تحرّر الإعلام البديل، حتّى اللحظة، من سطوة رأس المال، واللوبيات الاقتصادية العالمية.

القول بإنفاق حماس، أو المقاومة، بلايين الدولارات على بناء الأنفاق، ادّعاءٌ خبيثٌ، يهدف إلى اتهام المقاومة بسرقة أموال الشعب الفلسطيني، والأموال المقدّمة لخدمته ومساعدته

تكمن المسألة الثانية في التلاعب المتكرر بالحقائق والتعريفات والتوصيفات، وأخطرها ما يلقى صدّاً في الأوساط العربية والفلسطينية، نظراً إلى تكرارها وتعزيزها عن قصدٍ أو من دونه، فبعضهم يتبنّاها على اعتباره مدحاً للمقاومة، وبعضهم لإدانتها. إذ ستسلط المقالة الضوء على المجموعة الأولى كما في تبنّي مقولات أنّ قوات "حماس" الحالية ليست دفاعيةً فقط، بل هجوميةٌ أيضاً، واعتبار الأنفاق تحدّياً استراتيجيّاً كبيراً أنفقت عليها "حماس" بلايين الدولارات على مدار الأعوام الماضية، فضلاً عن اعتبار المقاومة اليوم متحكمةً في ميدان المعركة، والإعلام البديل، إلى جانب تحكّمها في المدنيين الفلسطينيين!.

بدايةً؛ من الخطأ تبنّي أيّ خطابٍ لا يمتُّ بصلةٍ إلى الواقع من أجل التفاخر فقط، إذ لا بدّ من التشبث بالوقائع والحقائق، حتّى لو كانت صعبةً وقاسيةً ومؤلمةً، إذ نلحظ خطأ الادعاءات السابقة كلّها، فالمقاومة الفلسطينية كلّها، وحماس ضمناً، مقاومةٌ دفاعيةٌ فقط، لأن المقاومة أصلاً فعلٌ دفاعيٌّ في مواجهة قوات الاحتلال المعتدية والمهاجمة بفعل الاحتلال نفسه، هنا لا يتعلق الأمر بنوعية الأسلحة التي تملكها المقاومة، أو حتّى بنوعيتها، بقدر ما يتعلق الأمر بالمفهوم نفسه، فالمقاومة تدافع عن حقّها، وحقّ شعبها طبعاً، المشروع بوطنها كلّه واستقلالها وسيادتها.

أما إنفاق "حماس" (أو المقاومة) بلايين الدولارات على بناء الأنفاق، فهذا ادّعاءٌ خبيثٌ أولاً، يهدف إلى اتهام المقاومة بسرقة أموال الشعب الفلسطيني، والأموال المقدّمة لخدمته ومساعدته، خصوصاً أموال التبرّعات والمنح الأوروبية والأميركية والعربية والدولية، وهذا أمرٌ كاذبٌ كلّياً، إذ لا يتحكم الاحتلال في السلع الواردة إلى غزّة فقط، بل كذلك في الأموال والمعدّات، الأمر الذي يستحيل معه إنفاق أيٍّ من أموال المساعدات من دون علمه بموضعها ومكانه وزمانه والغرض منه. ثم ثانياً؛ هو ادّعاءٌ غير مثبتٍ، إذ لا توجد أي وثائقٍ تؤكده، كما يتناقض مع الواقع الذي يصعب فيه تخيل امتلاك المقاومة بلايين الدولارات أصلاً، وإلّا لكنا نتحدث عن بنيةٍ عسكريةٍ متطورةٍ قد تقارع بنية الاحتلال نفسه، كما يتجاهل التضحيات البشرية الهائلة فلسطينيّاً لتعويض قلة السيولة المادية، وغياب المعدات، ونقص المواد، وفقدان الخدمات، ليس لبناء الأنفاق فقط، بل لاستمرار الفلسطينيين في الحياة ذاتها، في ظلّ كلّ الصعوبات التي يفرضها الاحتلال منذ بداية الاحتلال أصلاً، والتي اشتدّت منذ حصاره اللاقانوني واللاإنساني على قطاع غزّة.

التصدّي لأكاذيب الاحتلال المبثوثة عبر الإعلام الغربي لا يتطلّب دحضها المباشر فقط، بل يحتاج أيضاً إلى واقعية ودقةٍ وحذرٍ لا متناهٍ في سرد الواقع ووصفه

يتمحور الادعاء الأخير حول اعتبار أن المقاومة تتحكّم في ميدان المعركة، والإعلام البديل، والمدنيين الفلسطينيين، وهو ادّعاءٌ خطيرٌ جدّاً، لأنّه محاولةٌ لإنكار الحقائق الميدانية الملموسة والبديهية، عبر بناء سرديةٍ خاصةٍ تتطابق مع سردية الاحتلال، وتخدم أهدافه وغاياته، إذ تعتبر هذه السردية المقاومة طرفاً معتدياً لا مدافعاً، كما تعتبرها قوّةً قسريةً استبداديةً تتحكم في الغزيين وتتخذهم رهائن، وصولاً إلى التشكيك في كلّ ما بثه ويبثه الإعلام البديل، وبدرجةٍ أقلّ المراكز الإحصائية والقانونية، على اعتبارها تكراراً غشيماً لسردية المقاومة (كذباً منمقاً)، وبالتحديد سردية "حماس"، مع العلم أن الحقائق على الأرض تنفي هذه الادّعاءات السخيفة، إذ حاول معظم الفلسطينيين الانتقال إلى ما اعتبره الاحتلال أماكن آمنة، غير أن الاحتلال نفسه مَن قصفهم وقتل أعداداً كبيرةً منهم، كما قتلهم قبلها في الممرّات التي صنفها الاحتلال ممراتٍ آمنةً. كذلك لا تعتمد ولا تستمد وسائل الإعلام البديل روايتها من سردية "حماس"، أو أيٍّ من فصائل المقاومة، بقدر ما تستمد معلوماتها من المنظمات الدولية ذات المصداقية العالية أولاً، ومن الاحتلال الصهيوني، كياناً ومجتمعاً وجيشاً ثانياً، ومن شهادات الغزّيين أنفسهم الصوتية والمصورة ثالثاً. أخيراً، وفي ما يتعلق بالتحكم بميدان المعركة، فهو أمرٌ خاطئٌ أيضاً لأنّها قوّةٌ مقاومةٌ فقط، تتكيف مع أساليب الاحتلال الهجومية واعتداءاته لتدافع عن أرضها وشعبها وحقّها، بأبسط الإمكانات المتوفرة، إذ لا تملك الطيران الاستطلاعي، ولا الطيران الحربي، ولا تتحكّم في الخدمات اللوجستية الضرورية من ماءٍ وكهرباء واتصالاتٍ سلكيةٍ ولا سلكيةٍ وسلعٍ ومؤنٍ وإمداداتٍ طبيةٍ وشبكة طرقٍ بريةٍ وبحريةٍ وجويةٍ، أي إنّها لا تتحكم في شيءٍ سوى عناصرها ذوي العزيمة التي لا تلين.

التصدّي لأكاذيب الاحتلال المبثوثة عبر الإعلام الغربي لا يتطلّب دحضها المباشر فقط، بل يحتاج أيضاً إلى واقعية ودقةٍ وحذرٍ لا متناهٍ في سرد الواقع ووصفه.

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.