نصوصٌ مكتوبة باليد
اعتدنا، بضعة أصدقاء وأنا، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، على تبادل نصوصنا الأدبية والشعرية، في جلساتنا الخاصة، مكتوبةً بخطّ اليد، وقد يعمد بعضنا إلى نسخها بأجهزة الفوتوكوبي، ليُعطي مثلاً عشر نسخ إلى عشرة أصدقاء دفعة واحدة، ولا ينتظر أن يقرؤوا قصيدته بالتتابع.
نحن، اليوم، نرى ما نكتبه بالحرف الطباعي القياسي، عندما نكتب تغريداتنا وننشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. ولا يبدو الأمر مثيراً أو غريباً، بل إنّ كثيرين من مستخدمي مواقع التواصل قد لا تكون لديهم تجربة جديّة مع القلم والورقة أصلاً. لكنّنا، في تلك الأوقات، كنّا نحلم بذلك؛ أن نرى ما نكتبه من خلال الحرف الطباعي القياسي.
من أجل إطفاء هذه الرغبة، سلّمت ذات مرّة واحدة من أوائل القصص التي كتبتها، وكان اسمها "حرقة القلب" الى فتاة طابعية (العاملة على الآلة الكاتبة) تعمل في مكتب للخدمات الفنية مقابل كلية الهندسة في الباب المعظّم في بغداد. كانت الفتاة تضرب على الآلة الكاتبة الكهربائية (صارت اليوم من الماضي أيضاً!)، وتتأفف وتُبدي عدم ارتياحها من أحداث القصّة. كان سلوكها مزعجاً بالنسبة لي، فهي تتلقّى أجراً لقاء عملها، وليس من واجبها إطلاق تعليقات سلبية.
حصلت على أربع صفحات مطبوعة من القصّة، وهربت من الملاحظات الأخيرة للفتاة الطابعية. تأملت الأسطر المرصوفة بالحروف القياسية، وكأنني أقرأ قصّتي من وراء حاجز موضوعي غادر الطابع الشخصي جداً لكتابة اليد. كنت أعيد قراءة القصّة، في الحافلة التي عادت بي إلى البيت، مرّة بعد أخرى، وكأنني أتلمّس تجربة افتراضية عن قراءة الآخرين الممكنة لقصّتي في حال نشرها في صحيفة أو مجلة.
في ما بعد، جرّبت شيئاً آخر. كان لدي من المزاج والصبر ما يكفي لعملية قصّ دقيقةٍ لعشرات الحروف الطباعية من صفحات مجلة، لأعيد رصفها ولصقها بالصمغ، لتكون كلماتٍ وأسطراً في قصائد لي. استغرق مني الأمر بضعة أيّام، حتى أحصل على مجلّد صغير بحجم الكفّ، وبعدد صفحات لا يتجاوز العشرين، ضمّ بضع قصائد عنونتها "قصائد الجندي". وكان ذلك في صيف 1996.
استغرب أصدقائي مما رأوه، ولم يصدّقوا أنني رصفت الحروف واحداً تلو الآخر مع الحفاظ على مسافاتٍ مضبوطة واستقامة في السطر والتباعد الدقيق ما بين الأسطر، وغيرها من أمور تنجَز تلقائياً خلال الطباعة على الحاسوب في يومنا هذا!
كنت ألهو، وأفعل شيئاً أعرف أنّه سيثير انتباه مجموعة الأصدقاء، وربما إعجابهم، لكنّي لم أكن لأتوقع أن يأخذ أحد الصحافيين نسخة من هذا الكرّاس الصغير لينشر خبراً عنه تحت عنوان: صدر حديثاً! قدّم الموضوع بجدّية، لكنّي اعتبرته مجرّد مزحة. ومع هذه المزحة، ظهر اسمي واسم كتابي الافتراضي "قصائد الجندي" بحروف طباعية أخيراً على صفحة صحيفة رسمية!
هذه تجارب قد يكون جيلي، مع الجيل اللاحق علينا ربما، هم آخر الأجيال التي اختبرتها، وصارت من الماضي وجزءاً من الذاكرة، حين كنّا نثرثر مع بعضنا بعضا وجهاً لوجه، أكثر مما نكتب على "فيسبوك" و"تويتر"، ونقرأ ونكتب في الظلّ، بانتظار اللحظة المناسبة للنشر، والتي غالباً ما تكون نادرة. وكان ظهور النصوص الأولى منشورةً، كافياً لاعتبار ذلك جواز مرور إلى التواجد الشرعي في الوسط الثقافي والأدبي.
كانت شهوتنا للنشر كبيرة جداً، لأنّها مرتبطة بالبحث عن الاعتراف والتكريس. أما اليوم فإنّ الاعتراف والتكريس لم يعودا مرتبطين بالنشر، وصار من الممكن لأيّ امرئ أن يرسل كتابه من البيت إلى مطبعة لتطبعه من دون المرور بأيّ "فلاتر" مؤسّسية أو ثقافية. كما أنّ تزايد "اللايكات" يعطي مشروعية وقبولاً لكلّ ما يُكتب، وإشباعاً نفسياً عند من يكتب.
صار الاعتراف اليوم هو ما تحدّده الجماعة الخاصة، لا إجماع الجمهور العام، أو المؤسسة التي تسيطر على التثقيف العام، وكأنّنا نعود بالزمن إلى تخوت المقاهي، وتبادل النصوص المكتوبة باليد مع الأصدقاء، مع فارق أنّهم لم يعودوا مجرّد عشرة، وإنّما خمسة آلاف!