نرى حرّاس القدس وحيدين

16 ابريل 2022
+ الخط -

لم يكن الشاعر عبد الرحيم محمود يقرأ الفنجان عندما سأل، في قصيدةٍ له، الأمير سعود بن عبد العزيز، في زيارته فلسطين عام 1935 "المسجد الأقصى: أجئتَ تزورُه/ أم جئتَ من قبلِ الضياع تودّعه؟". وبعد عقود، لم يكن محمد حسنين هيكل يضرب الرمل عندما حدّث في منزله في القاهرة ياسر عرفات، أسابيع بعد توقيع اتفاق أوسلو في 1993، إن التسوية ستتحطّم على صخرة القدس. ومن شواهد بلا عددٍ على هذا أن عرفات لم يكن يُمازح عزمي بشارة عندما أبلغه من كامب ديفيد (2000) من هاتف الطيّب عبد الرحيم، انتهاء المفاوضات هناك (من دون شيء)، ويقول له "دي القدس يا حبيبي"، بلهجته نصف المصرية. .. ولو يستعيد قارئ هذه الكلمات مشاريع التسوية، الأميركية والعربية والإسرائيلية و..، منذ إعلان مجلس الأمن قراره 242 في 1967 وصولا إلى امتناع محمود عبّاس (وحسين الشيخ أيضا!) في 2021 إجراء انتخاباتٍ فلسطينيةٍ، نيابيةٍ ورئاسية، من دون أن تشمل سكّان القدس، سيلحظ أنه لم يكن لها أن تصنع شيئا، لسببيْن جوهرين: أولهما، ازدراء إسرائيل أي حلٍّ مع الفلسطينيين لا يقوم على إخضاعهم ونزع حرّياتهم وأي سيادةٍ واستقلالٍ لهم. وثانيهما، استحالة الوصول إلى أي نقطة التقاءٍ بشأن القدس، فالتنازلات المحتملة التي استعدّ لها عرفات في كامب ديفيد بشأن حدودٍ للقدس، ثم الخرائط التي تداولها أحمد قريع مع مفاوضيه الإسرائيليين، وكانت "تحرِّك" شرقي المدينة إلى مساحاتٍ قيد الأخذ والعطاء، لم تجدهما دولة الاحتلال كافيتين. وذلك كله قبل أن تفضّ عن نفسها عبء اللتّ والعجن في الموضوع كله، وتقفل باب المفاوضات من أساسِه، فإما استسلام الفلسطينيين التام لنظام الفصل العنصري المحتل، وتسليمهم بالاستيطان قدرا لا رادّ له، واكتفائهم بشأن القدس بزيادة أعداد المصلين في الحرم القدسي أيام الجمعة، أو موافقتهم على خطّة ترامب للسلام، وما فيها عن استثماراتٍ وصناديق وخرائط للضفة الغربية، وإقرار بالقدس عاصمةً دائمةً لإسرائيل.

القدس، في قصيدةٍ للشاعر عبد اللطيف عقل، أنهكتها المواويل. وهي في ثورات ناسِها وحرّاسها والمرابطين فيها، وفي مساجدها وكنائسها، وفي تصدّيهم لاعتداءات المحتلين التي لا تتوقف فيها، أنهكتها بيانات الوعيد والتنديد. وهذا رئيس فلسطين، محمود عبّاس، يقول بيانٌ باسمه، عقب استباحة قواتٍ من الشرطة الإسرائيلية ساحات المسجد الأقصى صباح أمس الجمعة، إن هذا "تطوّر خطير وتدنيسٌ للمقدّسات وإعلان حرب". وقالت حركة الجهاد الإسلامي إن "الاعتداء على المصلّين في المسجد الأقصى جريمةٌ عدوانيةٌ يتحمّل الاحتلال كامل المسؤولية عنها". ووصفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين العدوان على المسجد الأقصى بأنه "تصعيد خطير يتطلّب أعلى إسناد للمعتصمين في المسجد ولأهل القدس". .. لا ينتظر أهل القدس بياناتٍ مثل هذه، وإن وجب إصدارُها ربما، وهم يقاومون شناعات المحتلّين الذين يُدخلون قرابين إلى باحات المسجد المبارك، وهم يواجهون شراسة شرطة العدو بثبات، فيُصاب نحو مائتين منهم، ويُعتقل نحو أربعمائة، في صبيحة يوم جمعةٍ رمضانيٍّ، موصولٍ بتاريخٍ طويلٍ لم يتوقف الفلسطينيون فيه يوما عن حماية القدس المتروكة، وعن تسييج الأقصى والحرم القدسي وكنيسة القيامة بإراداتهم وبسالتهم، وبإيمانهم بالله.

كأنها المجازاتُ والاستعاراتُ يُستعان بها هنا لتسعف القول بشأن الذي تنقلُه التلفزات على الشاشات قدّامنا من هناك، من حيث الحرب التي يستقوي فيها المحتلون على المصلين في الأقصى وأكنافه. كأن لا شيء غيرها لمن تعوزُه الحيلة، للعاجز عن إتيان ما يُعينهم هناك، ما يزيدهم تمكينا، وهم الوحيدون المكشوفون إلا من رحمات الله. هذا هو حالنا وذاك حالُهم. أما أصحاب مواقع القرار، فلسطينيين وعربا، فانكشافهم في لحظة القدس الساخنة هذه، كما سابقاتٌ مثلها كثيرات، يجعلهم أقلّ من القليل الذين هم عليه. ثمّة كثيرٌ في وسع رئاسة دولة فلسطين أن تصنعه، لكنها لن تفعل. أما الذين يجيزون في البحرين والإمارات لأنفسهم التنديد المعلن بـ"إرهاب" فلسطيني، فقد رماهم الفلسطينيون بالإغفال والإهمال. لا يأمل المرابطون في القدس من الأنظمة العربية شيئا، لا يراهنون عليها في شأنٍ يخصّ رد المحتلّين وضباعهم في الفجر وغير الفجر.

التسويات مع الاحتلال تحطّمت، وهذا بديهيٌّ مشهود. والتطبيع العربي مع إسرائيل ينشط بهمّةٍ ظاهرة. وحرّاس القدس هم ناسُها، نلقاهم على الشاشات وحيدين، نصرهم الله وحماهم.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.