ترامب في مواصي خانيونس
أخبرتْنا مواقع الأخبار ومنصّاتها والتلفزاتُ ووكالاتُ الأنباء، أول من أمس، بموتٍ كثيرٍ أحدثَه حزامٌ ناريٌّ إسرائيليٌّ في نازحين في خيامهم في منطقة المواصي في محافظة خانيونس، وأبلغتْنا بأعداد الشهداء والجرحى منهم. ونقلت إلينا صوراً مفزعة، وأحاديثَ من شهود عيانٍ على المذبحة التي لا يليق أن يغيب عنّا أنها الثالثة التي تستهدف هؤلاء الناس، المتروكين لشهيّة القتل في الوحش الإسرائيلي، كما كل الغزّيين في كل موضعٍ في القطاع... ولكن، ماذا فعل من بقوا أحياء، هناك في هذه المنطقة، غير السكنية المفتوحة، والتي بلا شبكات صرفٍ صحيٍّ، وبلا بنى تحتية، في أقصى جنوب غرب خانيونس؟ كيف ناموا إذا ناموا، وأين؟ في أيٍّ شؤونٍ أنفقوا أحاديثهم الليلة التالية على نهارهم الدامي؟ قرأْنا أن لا شبكة اتصالات ولا إنترنت في هذه المساحة التي كانت تُعرف ببِركها ومياهها الجوفية التي يُستفاد منها في ريّ المزروعات... هل عَرفوا أن دونالد ترامب، ساعاتٍ بعد الذي صار فيهم، بوغِت بمحاولة اغتيال؟ وحتى لو عرَفَ من عرَف منهم، هل من وقْعٍ ما أحدَثه هذا النبأ فيهم؟ هل شاهدَ أحدٌ منهم على شاشة تلفزيون أو حاسوب أو هاتفٍ نقّال ترامب مُصاباً في أذنه اليمنى؟ هل تملّوا في شيءٍ من بعض دمٍ على بعض خدّ هذا الرجل وشيءٍ من أنفه؟ هل سأل بعضٌ منهم ماذا كان سيصيرُ في أميركا لو أن المرشّح المرجّح أن يكون رئيساً هناك مات؟ هل وجد غزّيون، في المواصي، وقتاً في ضحى نهار أمس، ليتداولوا في هذا الأمر؟ هل تكلّموا عن حظوظ المرشّح جو بايدن بعد هذا الحادث؟ هل قال أحدٌ لآخر إن شهاب الدين أطقعُ من أخيه؟ ...؟
تحتاج أسئلة كهذه يأتي عليها غزّيون منكوبون بين خيام في عراء المواصي إلى مخيّلة كاتب مسرحٍ عالي الموهبة، ليس فقط لأن التلفزات انصرَفت عن الباقين هناك، ولسنا نعرف إن عدّوا تماماً الشهداء والجرحى بينهم أم لم يقدِروا، إلى النصيرات ورفح وغيرهما، حيث الغارات الإسرائيلية المتنقّلة تُواصل وتيرتَها كيفما اتفق، وهي التي لا تضجر من فرط تكرار ما تقترف وترتكب، بلا أيّ أكتراثٍ بشيء، وإنما أيضا لأن ثمّة جرعاتٌ زائدة من العبث في تخيّل أهل غزّة يسرّون عن أنفسهم بأحاديث عن ترامب الذي يرى إسنادَ بايدن القتل الإسرائيلي فيهم ليس بما يكفي ويلزم، فيما الأخير لم يرَ أطفالاً قضوا في أي مذبحةٍ أو مستشفى أو مدرسةٍ مأهولةٍ بالفارّين النازحين يستحقّون منه أي مفردةٍ من التعاطف مثل الذي أشهره مع أطفال ضحايا مستشفىً في كييف، قيل إن الروس قصفوه، اشمأزَّ من تلك الفعلة في العاصمة الأوكرانية، كما قال ومعه حقّ، لكنه لم يكترث بجرائم كثيرةٍ مثلها وأُخرى أشدّ فظاعةً في غزّة.
تابعْنا، نحن النظّارة، في نهار أمس، المشاهد التي تُشبه مشاهدَ سبقتها في مذابح ونوبات قصفٍ واعتداءاتٍ جالت في شمال مدينة غزّة وجنوبها. تابعناها ما أمكن لنا الوقت، بعد أن كانت قد أخذتْنا كاميراتٌ ومواقعُ ومنصّاتٌ إخبارية إلى مدينة بتلر في ولاية بنسلفانيا، حيث كان يُخاطب ترامب حشداً من أنصارٍ له، وفي الأثناء، أمكن لواحدةٍ من سبع رصاصاتٍ طيّرها شابٌّ في العشرين أن تجرح إحدى أذني الجمهوري ترامب. والشابُّ الذي صار قتيلاً كان يكره ترامب والجمهوريين، على ما صرنا نعرف عنه. ثم ضجّت فضاءات الميديا في العالم بهذه الواقعة التي استدعت من الأرشيف محاولات اغتيالٍ تعرّض لها رؤساء أميركيون، كادت إحداها أن تودي بالرئيس الأقرب إلى ترامب ركاكةً وشعبويةً وجهلاً وفظاظة وتطرّفا، واسمُه رونالد ريغان، والذي أحرز الشعبية الأعلى بين من سبقوه وتعاقبوا بعده. أنبأتنا الولايات المتحدة في تلك الواقعة بواحدةٍ من أغرب غرائِبها، أن الذي كاد يقتل الرئيس (في 1981) أطلق رصاصاتِه ليثير انتباه الممثلة جودي فوستر إليه.
ليس لترامب، نجا أم لم ينجُ، نجح رئيساً أم أخفق، مطرحٌ في أفهام أولئك البسطاء في عراء مواصي خانيونس ومشاغل أدمغتهم. ليس من فائضٍ من الوقت لدى الغزّيين من بيت حانون إلى رفح يصرفونه في أمر ترامب، أفلح توماس ماثيو كروكس في طخّه أم لا.