نحو نموذج عربي لقياس القوة السيبرانية

17 أكتوبر 2022

(Getty)

+ الخط -

لم تعد المسألة خيالاً، فالبشرية تعيش على أعتاب الثورة الصناعية الخامسة التي ستركّز على دمج التكنولوجيا الحديثة مع الذكاء البشري، بشكلٍ أكثر فاعليةً ممّا كانت عليه في الثورة الصناعية الرابعة، إذ يتوقّع الباحثون أن تشهد هذه المرحلة تحولاً رقمياً في مجالاتٍ عدة، مرتكزة في ذلك على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والبيانات الضخمة وكيفية توظيفهما بشكل متوازن جنباً إلى جنب مع الإمكانات البشرية في مجالات مختلفة، بالاعتماد على تقنيات الاتصالات للجيلين الخامس والسادس.
والفضاء السيبراني أيضاً لم يعد كذلك كما ظهر في روايات الخيال العلمي في ثمانينيات القرن الماضي، فلم يعد بإمكان أي دولةٍ تقيس مكانتها وإمكاناتها كقوة ذات نفوذ بالاعتماد على عناصر القوة التقليدية فقط؛ إذ باتت المعطيات تحتّم امتلاك الدول لقدراتها في المجال السيبراني، التي أزاحت عناصر عديدة من القوة التقليدية من مكانها، فلن يعد امتلاك الدول للأموال، والثروات، والقدرات العسكرية والجغرافيا الشاسعة وكثرة السكان لم يعد كافياً لبلورة دورها قوة فاعلة ومؤثّرة وذات نفوذ في السياسات العالمية. تسعى اليوم دول كثيرة إلى الحصول على القوة الإلكترونية، وأصبحت هذه الأخيرة تأخذ شكلاً جديداً في طبيعتها ووسائلها وأدواتها ومعطياتها ومؤشّراتها، وبتنا نرى اليوم كيف أصبح الصراع الدولي يتّجه بالأساس نحو المغالبة والتنافس في ساحة الإنجازات التكنولوجية التي غيّرت من شكل النزاعات والحروب وأدواتها وأثرت على الفاعلين بها، وساهمت في إعادة التفكير في حركية وديناميكية الصراع.

يتم تقييم المؤشّرات عبر ثمانية أهداف: القدرة المالية، والمراقبة، والاستخبارات، والتجارة، والدفاع، ومراقبة المعلومات، والتدمير، والمعايير

صدر أخيراً عن مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد مؤشّره الوطني المحدّث للقوة السيبرانية لعام 2022 والذي يُختصر بـNCPI، وهو متابعة لمؤشّره الذي سبق في عام 2020 حيث يصنف 30 دولة وفقاً لقدراتها وإمكاناتها السيبرانية ويتكون من 29 مؤشّرًا، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية، وقوانين حماية البيانات، والمعايير الفنية وحوكمة الإنترنت، والبحوث الإلكترونية، والجرائم الإلكترونية، والإنفاذ، واستخدام المعرفة المتاحة للجمهور عن القدرات الإلكترونية. ويتم تقييم هذه المؤشّرات عبر ثمانية أهداف: القدرة المالية، والمراقبة، والاستخبارات، والتجارة، والدفاع، ومراقبة المعلومات، والتدمير، والمعايير. يقيس هذا نطاقاً واسعاً من نيات الدولة وقدرتها في الحرب الإلكترونية والدفاع لتأثير الدولة في وضع القواعد والمعايير الفنية الدولية. 
ترتيب الدول القوية سيبرانياً، حسب مؤشّر القوة الإلكترونية الوطنية لعام 2022 جاء كالآتي: الولايات المتحدة، الصين، روسيا، المملكة المتحدة، أستراليا، هولندا، كوريا الجنوبية، فيتنام، فرنسا، وفي المرتبة العاشرة إيران.
يتّضح من الأرقام والمعطيات الواردة في المؤشّر تقدّم روسيا على بريطانيا في المركز الثالث، بينما بقيت الصين في المرتبة الثانية، وقفزت أستراليا من المرتبة العاشرة في عام 2020 إلى المرتبة الخامسة في مؤشّر هذا العام 2022؛ بينما تراجعت فرنسا ثلاثة مراتب من المركز السادس إلى التاسع. وسقطت ألمانيا وكندا واليابان من بين العشرة الأوائل. وكانت كوريا قد انتقلت إلى المراكز العشرة الأولى، فاحتلت المركز السابع بعدما كانت في المركز السادس عشر؛ أما فيتنام فانتقلت إلى المركز التاسع، من المرتبة الثامنة عشرة؛ وإيران إلى المرتبة العاشرة، بعد أن كانت في المرتبة الثانية والعشرين. والجدير ملاحظته أنه في تصنيف 2022، جاءت أوكرانيا في المرتبة 12 بعد أن حقّقت قفزة هائلة من المرتبة 29 في عام 2020 ويبدو أن الحرب في أوكرانيا ساهمت في زيادة المواقف لكل من روسيا وأوكرانيا، وأدّت إلى صعود روسيا وتفوقها على المملكة المتحدة في التصنيف العالمي.

تساهم القوة السيبرانية في تعظيم النفوذ والقدرات الاقتصادية والدفاعية والعسكرية والأمنية العالمية

أحد أهم العناصر الرئيسية التي أشار إليها التقرير أنّ الولايات المتحدة ما زالت تتربّع على رأس القائمة الأقوى من حيث امتلاكها القوة السيبرانية، وقد احتلت مكانة بارزة لا مثيل لها في شؤون الفضاء السيبراني العالمية خلال الأعوام السابقة، ولطالما احتفظت واشنطن بتفوّقٍ واضح على جميع البلدان الأخرى، من حيث قدراتها في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وقد كانت الهيمنة على الفضاء السيبراني هدفاً استراتيجياً للولايات المتحدة منذ منتصف التسعينيات؛ وهي الدولة الوحيدة التي لها بصمة عالمية بارزة في كل من الاستخدامات المدنية والعسكرية للفضاء السيبراني، على الرغم من أنّها تعتبر نفسها الآن مهدّدة في هذا المجال بشكل خطير من الصين وروسيا.
وعلى الرغم من أنّ القوة السيبرانية تساهم في تعظيم النفوذ والقدرات الاقتصادية والدفاعية والعسكرية والأمنية العالمية، إلّا أنّ هذه القدرات غير متفقّ على سبل ونماذج عالمية لتقييمها بشكل فعّال، كما هي الحال بالنسبة لنماذج ومؤشّرات قياس القوة الصلبة. طرقت بعض مراكز التفكير العالمية باب البحث في القدرات السيبرانية للدول وكيفية قياسها وتصنيفها مثل (أداة تقييم بناء القدرات التي وضعها البنك الدولي لمكافحة الجريمة السيبرانية، والتقرير السنوي حول النضح السيبراني الذي يصدر عن المعهد الأسترالي للسياسات الاستراتيجية، والرقم القياسي للتأهب السيبراني الذي يصدُر عن معهد بوتوماك لدراسة السياسات العامة، وحتى نموذج نضج قدرات الأمن السيبراني الذي يصدُر عن المركز العالمي لقدرات الأمن السيبراني بجامعة أكسفورد، والرقم القياسي العالمي للأمن السيبراني الذي يصدر عن الاتحاد الدولي للاتصالات، وكذلك إطار تقييم القدرات الوطنية الذي يصدر عن وكالة الاتحاد الأوروبي المعنية بالأمن السيبراني)، وفي ظنّي أن  نموذج مركز بيلفر للقوة الإلكترونية الذي أشرنا إليه سابقاً هو النموذج الأكثر شموليةً وأفضلها لقياس القدرات السيبرانية للدول.

بناء أدواتٍ تقيس قدرات القوة الإلكترونية بات حاجة ملحّة تساهم في فهم هذا المجال البالغ الأهمية لتحسين الاستراتيجيات الوطنية

ما تتفق عليه معظم هذه النماذج، رغم ضبابية المشهد السيبراني، هو ترتيب الولايات المتحدة ووضعها على رأس الهرم لتحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم دولة تتمتع بنقاط قوة رائدة في الفضاء السيبراني، حيث تمتلك قدراتٍ هجوميةً أكثر تطوراً من قدرات أي بلد آخر، بالإضافة إلى جميع الأسس الرئيسة من حيث قدرة استخبارات سيبرانية عالية الجودة وقيادة "تحالف العيون الخمس الاستخباراتي" المتقدّم تقنياً؛ وقاعدة أكاديمية وصناعية سيبرانية قوية. 
ترتيباً على ما سبق، باتت القدرات السيبرانية مجالاً مهماً لممارسة النفوذ وتحقيق التفوق والتنافس الدولي، فلم تعد ترسانات الأسلحة التقليدية المعيار الأساس والوحيد لقياس القوة بعد الثورة المعلوماتية، وهذا يتطلّب من الخبراء والدول (خصوصاً العربية المتأخرة في هذا المضمار) البحث عن نماذج لقياس مؤشّرات القدرات السيبرانية وتصنيفها كما هي الحال في مراكز التفكير الغربية، لأن بناء أدواتٍ تقيس قدرات القوة الإلكترونية بات حاجة ملحّة تساهم في فهم هذا المجال البالغ الأهمية لتحسين الاستراتيجيات الوطنية والسياسات الإلكترونية للدول، في ظل تصاعد المواجهة الدولية في فضاءٍ أصبح جزءاً من التفاعلات الدولية، بعد أن توسّعت وازدادت معدلات التهديدات، وتزايدت الهجمات الإلكترونية بشكل كبير.

3467CF47-90FA-451A-87BD-72D9E261E143
خالد وليد محمود

كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.