ما وراء إعلان الصين عن استراتيجيّتها الرقمية

17 ابريل 2023

(Getty)

+ الخط -

على مدى السنوات القليلة الماضية، كان هناك قلقٌ متزايد داخل الولايات المتحدة وأوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ بشأن الاتجاه الاستراتيجي وراء سياسات الصين الرقمية، بدءاً من الجدل بشأن تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات والتقدّم في مجالات الذكاء الاصطناعي والطيران فائق السرعة، وأشباه الموصلات أو صناعة الرقائق الإلكترونية، وليس انتهاءً بالسباق الصيني في مجال تكنولوجيا الحوسبة الكمّية أو الكمومية وتطبيقاتها. 
لا أحد يمكنه أن ينكر التفوق الصيني في المجال الرقمي والسيبراني على مستوى العالم، ولا أحد يمكنه أن  يقلّل من أهمية  المكاسب الضخمة التي حققتها الصين على مدار الجيل السابق في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وهو ما يُتوقع أن تُحقِّق مثله في الجيل القادم، فللصين دور متقدّم في هذا المضمار، وهي التي تنافس عالمياً في  إنشاء شبكات اتصالات رقمية متقدّمة تغطي كل البلاد، وتعزّز من الاستخدام الفعال لتكنولوجيا الإنترنت والحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، وقد جعل القادة الصينيون من التكنولوجيا أولويةً وطنيةً منذ سبعينيات القرن الماضي، ولم تُفارق خيالهم صورة المستقبل الذي ستصبح فيه الصين القوة العلمية المُهَيمنة في العالم. 
بالنسبة للصين، أصبح قطاع التكنولوجيا الرقمية مقياسا لقوّتها ونفوذها في الخارج وجبهة رئيسية في الصراع الذي تخوضه مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من وجود عدد كبير من السياسات المعمول بها في الصين في المجال السيبراني والتكنولوجي والرقمي، إلا أن استراتيجية الصين الرقمية (الشاملة) لم يتم الإفصاح عنها إلا أخيرا، وتحديداً بعد نشرها في فبراير/ شباط من العام الجاري، عندما كشفت وسائل الإعلام إن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ومجلس الدولة أعلنا عن خطّة جديدة تهدف إلى دفع التنمية الرقمية في الصين إلى الأمام تحت عنوان استراتيجية الصين الرقمية.

من المتوقع أن يكون التطوّر الرقمي للصين من بين أفضل الدول بحلول عام 2035 مع تقدّم كبير

إذاً ها هي الصين تقدّم ولأول مرة استراتيجيها الرقمية للعالم، باعتبارها الاستراتيجية الرقمية الكبرى الأولى، من حيث شموليتها ومداها الطويل وتصميمها، لتشمل جميع مجالات التنمية القومية الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والاجتماعية، والبيئية. وكما الاستراتيجيات الكبرى عموماً، يُنتظر أن تطبّق "الصين الرقمية" على مجموعة واسعة من القرارات والتعديلات والمهام، وحتى أصغر المشاريع الخاصة بالحزب الشيوعي.  وتقترح الاستراتيجية تحوُّل الصين إلى الرقمنة كلياً بحلول عام 2025، لتصبح بكّين رائدة عالمياً في المجال الرقمي في غضون عام 2035. وجرى العمل على تطوير استراتيجية الصين الرقمية، وفقاً لإطار عمل رسمي يُعرَف باسم "2522"، ويمثل كل رقم واحداً من البنود الرئيسة للاستراتيجية.
وحسب ما جاء في الاستراتيجية، من المتوقع أن يكون التطوّر الرقمي للصين من بين أفضل الدول بحلول عام 2035 مع تقدّم كبير في مجالات مثل البنية التحتية الرقمية والاقتصاد الرقمي والابتكار التكنولوجي وتطبيق التكنولوجيا والأمن السيبراني والحوكمة الرقمية والتعاون الدولي وتعزيز بناء البنية التحتية الرقمية ونظام موارد البيانات، بالإضافة إلى زيادة دمج التقنيات الرقمية مع قطاعات البنى التحتية، وتسريع بناء شبكة الجيل الخامس، والتطبيق الواسع النطاق لبروتوكول الإنترنت الإصدار 6 (IPv6) ونظام BeiDou للملاحة عبر الأقمار الصناعية، بالإضافة إلى تطوير إنترنت الأشياء (IoT). 
أعادت قيادة الحزب الشيوعي الصيني كتابة النظرية الاقتصادية الماركسية في سعيها إلى دمج "البيانات" أساسا لاقتصادها الرقمي، ومن أجل تعزيز "الماركسية الرقمية" الصينية. إذ تسعى الصين الرقمية اليوم إلى إطلاق "السلاح الحادّ" للابتكار، لتسهيل صعود قوتها العظمى وتحدّي الغرب، وتختبر بكين ما إذا كان يمكن إنشاء التفكير الإبداعي من خلال التحوّل الرقمي للأدوات والمواهب والتعلم.

تحاول بكين فرض سياساتٍ على أرض الواقع ترفع مكانتها ودورها عالمياً، من خلال تشكيل مجال رقمي محلي

الولايات المتحدة وحلفاؤها بدأوا في إحداث تأثير استراتيجي مضادّ لعدد من سياسات تكنولوجيا جمهورية الصين الشعبية، ولا يوجد تقريباً أي فهم أو مناقشة عامة لهذه الاستراتيجية الرقمية الكبرى، تبتعد في التفسير عن المنافسة التكنولوجية المحتدمة بين واشنطن وبكين، والتي ترى الأخيرة إن النظام الدولي يخضع لسيطرة الغرب بقيادة الولايات المتحدة؛ فإنها تؤمن، في الوقت نفسه، بأن استراتيجيتها الرقمية تُقدِّم فرصة لإصلاح هذا النظام وبناء نموذجها الرقمي الخاص. وأحد أهم المحدّدات الاستراتيجية لتركيز القيادة الصينية على الخطة الجديدة تحوّل الصين، في النظام الدولي الجديد، من مُستقبلة للقواعد الدولية إلى صانعة لها، وأن تكون "المهندس" القائم على كتابة المعايير وتطوير آليات الحوكمة بهذا المجال. وتفترض الصين أن العالم الرقمي الجديد يملك مقوّمات جعل الحياة اليومية "أكثر ذكاءً" وأكثر فعالية، وأن كثيرين من أعضاء المجتمع الدولي سيرغبون في الانضمام إليها. وبشكلٍ مُبسّط، تبنّت استراتيجية الصين نهج "قم ببنائها وسوف يلحقون بك".
تأسيساً على ما تقدم، يمكن القول إن الهدف الأساسي من مساعي الصين، من خلال استراتيجيتها الرقمية، رغم أنها في مراحلها الأولية وقد يصعب استيعاب بعض بنودها وأبعادها، أداء دور قيادي منافس لواشنطن والغرب خلال الثورة الصناعية المقبلة، وهي الحقبة التي ستمثل فيها البيانات وتقنيات الذكاء الاصطناعي بنية تحتية محورية، وأساسية في المدن الذكية، وستغير حياة البشر كليا، وهو المجتمع الذي تطلق عليه الصين اسم "حضارة ذكية".
رغم أن هناك من يفهم إعلان استراتيجية الصين الرقمية طويلة المدى في سياق الدعاية للحزب الشيوعي الصيني، ووسيلة لإضفاء الشرعية على نموذج الحوكمة الخاص بالصين، ونشره في الخارج، فإنّ الحقيقة لا تبتعد عن "الاستثمار الصيني في البيانات"، وتحويلها إلى أصول استراتيجية يمكن تبادلها وبيعها. وبهذا المعنى، تحاول بكين فرض سياساتٍ على أرض الواقع ترفع مكانتها ودورها عالميا، من خلال تشكيل مجال رقمي محلي، وبناء دورٍ قياديٍّ منافسٍ ورائدٍ في الثورة الصناعية المقبلة، وبما يتجاوز في طموحها طريق الحرير الرقمي الذي أعلنت عنه عام 2017، وبشكل أعمق من استراتيجيتها التنموية، وهي مبادرة الحزام والطريق، أو ما تسمّى بمبادرة "طريق الحرير الجديد" ، وحتى أبعد مدى من تكنولوجيا الإنترنت اللاسلكي المعروف بـ"5G" أو الجيل الخامس للاتصالات، وربما أهم من خطّة "صنع في الصين 2025"!

3467CF47-90FA-451A-87BD-72D9E261E143
خالد وليد محمود

كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.