نحو مبادرة مصرية قبل فوات الأوان
بينما تشتدّ مخاطر التهجير القسري لأبناء قطاع غزّة نحو الحدود المصرية مع كثافة النزوح إلى مدينة رفح المتاخمة للحدود ونصب الخيام هناك، اتّجهت الأنظار إلى القاهرة المُستهدفة إلى جانب أبناء غزّة بمخطط التهجير الذي بات مُعلناً، وتدلّ عليه وقائع الحرب الوحشية التي تدفع المدنيين نحو منطقة الجنوب، بعد أن تهدّمت بيوتهم وفقدوا أحباءهم وأرزاقهم وأصيب كثيرون منهم وتقطّعت بهم السبل. وكانت القاهرة قد شدّدت مراراً وتكراراً، وعلى أعلى المستويات، على أنها لن تقبل بخطط تصفية القضية الفلسطينية، وتعتبر التهجير القسري خطّاً أحمر، ولوّحت باستخدام القوة. وجاء جديد المواقف هذه على لسان أعلى مسؤول عسكري مصري قبل أيام، وهو وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي، إذ ألقى خطاباً شدّد فيه على أن "القضية الفلسطينية تواجه منحنى شديد الخطورة والحساسية وتصعيدًا عسكريًا غير محسوب لفرض واقع على الأرض هدفه تصفية القضية الفلسطينية"، مؤكدًا أن "السلام لا بد له من قوة تحميه وتؤمّن استمراره، فالعالم اليوم ليس فيه مكان للضعفاء". وقد وردت أقوال الوزير، الاثنين 4 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، خلال افتتاح المعرض الدولي الثالث للصناعات الدفاعية والعسكرية وبحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي. ويسترعي الانتباه في الخطاب الحديث عن "تصعيد عسكري غير محسوب"، وهي عبارة تحذيرية تشي بأن حسابات وتقديرات إسرائيلية خاطئة تكمن خلف التصعيد العسكري ضد أبناء قطاع غزّة، والخطأ هنا، كما يُستدل من عبارة وزير الدفاع، يتعلق برد الفعل المتوقّع من مصر.
وواقع الحال أن امتداد الحرب إلى الشطر الفلسطيني من مدينة رفح يكشف عن واقع خطير مستجد، وهو أنه لم يبق أمام جموع النازحين، إذا ما اشتدّ القصف المتوحّش عليهم، سوى التماس النجاة بالاتجاه نحو معبر رفح، وهو ما حذّرت منه الخارجية الفلسطينية بالقول إن إسرائيل تطلب من النازحين في قطاع غزّة المزيد من النزوح "لحشرهم وتحديد حركتهم باتجاه واحد نحو معبر رفح الحدودي مع مصر".
ومغزى ما تقدّم أن التحدّي الإسرائيلي بفرض التهجير قد بلغ نقطة الذروة، ويأتي هذا التطور الخطير مع أخبار وتقارير متواترة عن ضغوط غير مشروعة تتعرّض لها مصر من أطراف غربية للقبول باستقبال نازحين "لأسباب إنسانية ولفترة مؤقتة". وهو ما انفكّت القاهرة ترفضه، وترفض معه الإيحاءات بحوافز مقابل الاستجابة لهذا المطلب غير المشروع، والذي يتّسق مع أهداف الحرب الإسرائيلية.
القمة العربية والإسلامية في الرياض دعت إلى كسر الحصار على القطاع وتسهيل دخول قوافل الدعم والإغاثة، والقاهرة، بحكم الجوار الجغرافي، هي المؤهلة لتسهيل وصول هذه القوافل
وقد عملت القاهرة، منذ بدء هذه الحرب، على احتوائها، وسارعت لتنظيم ملتقى دولي للسلام، شهد ذلك ارتفاع الأصوات المندّدة بالحرب والداعية إلى وقفها، غير أن أطرافا أوروبية متواطئة مع تل أبيب حالت دون إصدار بيان ختامي عن الملتقى، ثم نشطت القاهرة، متمتعة بخبرتها في الوساطة، في دعم الجهود القطرية، والمشاركة في هذه الجهود من أجل إرساء الهدنة وتبادل الأسرى بين الجانبين، وهو ما حقق نجاحا لافتا، قبل أن تتراجع تل أبيب عن التزاماتها باستكمال عملية التبادل وإرساء الهدنة، حين احتسبت مجندات أسيرات من فئة المدنيين النساء، وقد حمّلت القاهرة مسؤولية توقّف المفاوضات على الجانب الإسرائيلي.
وبينما نشطت الدبلوماسية المصرية في العمل على وقف إطلاق النار، ظلت الوقائع على الحدود تشي بعراقيل إسرائيلية لإدخال المساعدات، وقد تتالت النداءات من أطراف الرأي العام هنا وهناك داعية مصر إلى أن تفرض سيادتها على المعبر، وأن تبقيه بعيداً عن التدخّل الإسرائيلي، نظراً إلى حالة الحرب القائمة التي فرضت واقعاً استثنائيا يتطلب قرارات استثنائية، وبما ينسجم مع مقتضيات السيادة الوطنية. وكان الأمل وما زال أن تستثمر القاهرة مركزها وثقلها في المنطقة لتطويق مفاعيل الحرب الإسرائيلية، وتأمين دعم سياسي ومعنوي عبر السماح لقوى أهلية مصرية، منها الصحافيون الراغبون بعبور معبر رفح باتحاه مناطق غزّة، غير أن حسابات عديدة أدّت إلى شلل هذه المبادرة وكبحها. علماً أن وفداً قطرياً خيرياً برئاسة الوزيرة لولوة الخاطر أمكنه دخول القطاع والالتقاء بأبنائه. وقد تكررالقرار بالمنع مع ما يعُرف بقافلة ضمير العالم التي لم يؤذن لها أيضا بدخول القطاع من معبر رفح، علماً أن وجود هذه القافلة على أرض القطاع يمكنه أن يحقق تفاعلات سياسية وإعلامية إيجابية. وكانت القمة العربية والإسلامية التي عقدت في الرياض قد دعت إلى كسر الحصار على القطاع وتسهيل دخول قوافل الدعم والإغاثة، ولا شك أن القاهرة، بحكم الجوار الجغرافي، هي المؤهلة لتسهيل وصول مثل هذه القوافل الإنسانية.
هل يصح ترك الإسرائيليين يضعون أبناء غزّة المُستضعفين بين خياري الهلاك والعبور داخل الحدود المصرية؟
في هذه الأثناء، تنشط الدبلوماسية المصرية سعيا إلى تأمين وقف إطلاق النار، وقد توجه الوزير سامح شكري هذا الأسبوع إلى واشنطن، والتقى أعضاء بارزين في الكونغرس لهذا الغرض، قبل أن ينضم إلى لجنة الاتصال الوزارية المنبثقة عن قمة الرياض، بهدف التباحث باسم القمّة مع كبار المسؤولين الأميركيين. غير أنه من الواضح أن واشنطن لا تصغي لأحد في العالم بشأن الحاجة الماسّة لوقف إطلاق النار، بما في ذلك نداءات المسؤولين الأمميين، وفي مقدمتهم أمين عام الأمم المتحدة، غويتريس، الساهر على تطبيق القانون الدولي. وبدلاً من ذلك، تتحاور واشنطن فقط مع حليفها وشريكها في تل أبيب، ولا يتورّع مسؤولون أميركيون عن القول إن الحرب سوف تمتد إلى مطلع الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني)، مع ترديد العبارات المعسولة عن وجوب حماية المدنيين، الذين تتزايد أعداد الضحايا بينهم، وتتزايد جموع النازحين منهم على مقربة من النقطة الحدودية مع مصر، في وقتٍ تعرّضت بيوت في رفح لقصف إسرائيلي وحشي .
التساؤلات التي تفرض نفسها في هذه الظروف الحرجة والخطيرة: هل كان من الصواب انتظار انزلاق الأمور نحو الحافّة ونحو الأسوأ كما يشهد العالم الآن؟ ولماذا لم يُفعّل ما تتمتع به مصر من ثقل عسكري وسياسي، بأن تطلق تحذيرا صريحا في السر أو العلن، من انتقال الحرب إلى جنوب غزّة، وقريبا من حدودها، باعتبار ذلك تصعيدا عسكريا غير محسوب، يمسّ الأمن القومي المصري؟ وهل يصح ترك الإسرائيليين يضعون أبناء غزّة المُستضعفين بين خياري الهلاك والعبور داخل الحدود المصرية؟
ما زال الأمل قائماً ببروز مبادرةٍ مصريةٍ ملموسةٍ وقويةٍ قبل فوات الأوان، مبادرة أو تحرّك يمنع المحتلين من فرض إرادتهم وتنفيذ مخططهم، بما يُعين أهل القطاع على الصمود في أرضهم.