نحن وأميركا والكابوس الصيني

05 يوليو 2023

(Getty)

+ الخط -

يكاد لا يمر يوم في الآونة الأخيرة إلّا وتجد تصريحاً لمسؤول أميركي، أو مادة مكتوبة (دراسات، مقالات، تحليلات)، لمراكز أبحاث أو وسائل إعلام أميركية تتناول دور الصين والتحدّي الذي باتت تمثله للولايات المتحدة ومكانتها في النظام الدولي. وتختلف الآراء، بطبيعة الحال، بشأن هذا الموضوع، فثمة من يرى أن الوقت قد فات على وقف صعود الصين وأنّها ستزيح، لا محالة، الولايات المتحدة عن مكانتها خلال سنوات تقلّ أو تزيد في سياق سيرورةٍ تفرضها دورة حياة الدول والإمبراطوريات والقواعد التي تقرّر العلاقة بين القوة الحاكمة في النظام الدولي والقوى الصاعدة فيه. وهناك، في المقابل، من يرى وجود مبالغة كبيرة بشأن صعود الصين وتهديدها المكانة الأميركية، وهؤلاء بدورهم ينقسمون إلى جماعات، يرى بعضهم أنّ ما يجري لا يعدو كونه عمليةً كلاسيكية لصناعة عدو وهمي، تحتاج الولايات المتحدة باستمرار إلى وجوده، لتخفيف حدّة التناقضات الداخلية التي تكاد تفجّرها من الداخل، فيما يذهب آخرون إلى وضع ما يجري في إطار نظرية المؤامرة. وهدفها هنا، وفق رأيهم، تبرير الإنفاق العسكري الكبير وتحقيق مصالح المجمع الصناعي العسكري الذي يحكُم السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة. يرى العقلاء في هذا المعسكر أن هناك حالة ذعر غير مبرّرة بشأن صعود الصين وقدرتها على تحدّي الولايات المتحدة انطلاقا من أن الفجوة التكنولوجية والعلمية والصناعية والعسكرية التي تفصلها عن الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، ما زالت كبيرة، وأن الصين تواجه تحدّيات اقتصادية وديموغرافية واجتماعية كبرى، قد لا تتمكّن أبداً من تحييدها لإزاحة الولايات المتحدة عن موقعها المهيمن في النظام الدولي ورسم قواعد لنظام جديد تقع هي في مركزه.

لكن، بغض النظر عن هذه الانقسامات، ومدى صحّة الاعتبارات التي يسوقها كلّ معسكر، بات واضحاً أن شبح الصين يسيطر على تفكير نخب الحكم الأميركية إلى درجةٍ صرنا نراه في كلّ تفصيل في سياسة واشنطن الخارجية والأمنية، ومدخلاً لا يمكن تجاوزه لفهمها. وهذا يؤكّد في الواقع أن القواعد التي تساعد في فهم السياسة الأميركية لم تتغيّر كثيراً على امتداد القرن الماضي، أي منذ صارت الولايات المتحدة قوةً كبرى، وأولها أن سياسة واشنطن في منطقةٍ ما لا يمكن فهمها بمعزل عن سياستها العالمية (Global Policy) التي تمثل بدورها المتغير المستقل الذي يحكمها بامتياز. في الشرق الأوسط، مثلا، كانت واشنطن في فترة الحرب الباردة ملتزمة بأمن النظم الحليفة لها واستقرارها، لكن الأمر لم يعُد بالأهمية نفسها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أو بعد تناقص اعتمادها على نفط المنطقة العربية، وتحوّلها إلى الاكتفاء ذاتياً من مصادر الطاقة بعد ثورة الغاز والنفط الصخري (لاحظ هنا سلوك إدارة أوباما من ثورة 25 يناير في مصر، مثلاً، أو سلوك إدارة ترامب إزاء الهجمات التي تعرّضت لها السعودية في سبتمبر/ أيلول 2019). لكن الأمور تغيّرت مجدّداً مع تحوّل العلاقة مع الصين إلى المحدّد الرئيس في السياسة الخارجية الأميركية، إذ عادت واشنطن، أخيراً، إلى الاهتمام بالمنطقة من باب احتواء نفوذ الصين فيها ومنع احتمال انتقال حلفائها إلى المعسكر الآخر.

النقطة الثانية المهمة لفهم السياسة الأميركية أنّ الولايات المتحدة تميل إلى التركيز على مناطق في العالم أكثر من أخرى؛ وذلك بحسب طبيعة مصالحها والتحدّيات لها. ونظراً إلى أنّ كلّاً من المصالح والمخاطر متغيّرة، فإنّ الاهتمام الأميركي بمنطقة معينة يتغيّر وفقاً لتغيّرها. لقد انزاح مركز الاهتمام في السياسة الأميركية من المسرح الأوروبي إلى المنطقة العربية بعد انتهاء الحرب الباردة، وخصوصًا بعد هجمات سبتمبر 2001، ثم باتجاه شرقي آسيا مع الميل إلى التركيز على الصين. جاء هذا التحوّل نتيجة تغيّر طبيعة التحدّيات، ففي حين كان الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه مصدر الخطر الرئيس في الحرب الباردة، وكان مسرحه أوروبا، صار "الإرهاب" بالنسبة إلى واشنطن مصدر الخطر الرئيس الذي يواجه مصالحها؛ ما جعلها تنقُل تركيزها إلى المنطقة العربية والعالم الإسلامي عموماً. وعاد الأمر ليتغيّر مجدّداً مع انتقال الاهتمام إلى الشرق الأقصى، بتحوّل الصين إلى التحدّي الاستراتيجي الرئيس للمصالح الأميركية. تأثّرنا بهذا التغير سلباً أم إيجاباً يعتمد على زاوية النظر إلى الموضوع وموقع الرائي منه.