نحن أصحاب الأرض
بيانات المنحازين للكيان الصهيوني بشأن العدوان الأخير على غزة تؤكّد مجددًا على أنّ قضية فلسطين هي الأوضح والأكثر نصاعةً، بل تكاد تكون هي القضية العادلة الوحيدة في العالم الآن.
حتى الذين يساوون بين المجرم والضحية في توزيع الاتهامات، ممن يدينون هجمات المقاومة الصاروخية، قبل، أو مع، الغارات الإسرائيلية التي تدمر المنازل وتحصد أرواح المواطنين في غزة، يختمون بياناتهم بالدعوة إلى حل الدولتين، ورفع الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني.
سواء دانوا القصف الإسرائيلي ثم نادوا بحل الدولتين، أو ندّدوا بضربات الصواريخ على المستعمرات، فإنهم في الحالتين، يقرون بأنّ ثمّة احتلالًا لأرض واعتداء على أصحابها الأصليين، وإلا فلماذا يطلبون حل الدولتين؟ هنا تطل فلسطين قضية أولى، ووحيدة باقية في إرث الاستعمار، بحيث لا يمكن مقارنتها بأي صراع آخر، مسألة أوكرانيا على سبيل المثال، ذلك أن الضمير الغربي مهما حاول القفز على حقائق التاريخ، فإنه يبقى مؤرّقًا بتفاصيل الجريمة التي صنعها وأشرف على اكتمالها في أرض فلسطين، فلا يستطيع الهروب من معطيات المعادلة التي تقول إن مجموعة من اللصوص والقراصنة، هجموا على أرض يمتلكها شعب، ولها علم ونشيد وحدود جغرافية وأعماق حضارية ثابتة وراسخة، فارتكبوا مذابح ومجازر لاقتلاع هذا الشعب من أراضيه، ومحاولة تأسيس كيان استعماري جديد، بمساعدة استعمار قديم أراد أن يتخلص من مجموعات من سكانه، لا يحب أن يبقوا ضمن مكوناته الاجتماعية، فراح يتبنّى أساطير ومزاعم مكذوبة، ويفرضها على أصحاب الأرض في فلسطين.
هكذا انفرد الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين بأنه الدولة الوحيدة في التاريخ التي قامت على أساطير وأكاذيب تاريخية زاعقة، فندها عديد من الساسة والمؤرخين الأوروبيين فنالهم البطش والأذى. والحال كذلك، لا معنى للكلام عن حل الدولتين سوى أن الذين يردّدونه يحاولون التخفّف من عقدة ذنب تلازمهم، لكنهم يدفنونها تحت ركام المصالح الاستعمارية الممتدة منذ القرن الماضي، فيطلبون دولة للفلسطينيين على حدود المرحلة الثانية من الاستعمار الصهيوني التي ارتسمت معالمها في الخامس من يونيو/ حزيران 1976 وبلورها قرار مجلس الأمن رقم 242، والذي استدعى القرار الخاص بحق العودة للفلسطينيين رقم 194 الصادر بعد التقسيم والنكبة في عامي 1947 و 1948.
كنا نظن أنّ هذا هو الحد الأقصى من الانحياز الغربي للكيان الصهيوني، حتى قرّر العرب أن يرفعوا الحرج عن الضمير الأوروبي، فبدأوا ما يمكن اعتباره عملية "تحرير الضمير العالمي من عقدة الإحساس بالذنب تجاه فلسطين" بالذهاب في مسارات تفاوض، أو بالأحرى تفريط، دشنها أنور السادات في كامب ديفيد، ثم توالت الهدايا العربية للكيان الصهيوني وبالتبعية للضمير الأوروبي، في مدريد وبعدها أوسلو الأولى والثانية، ثم بما تسمّى المبادرة العربية في بيروت، حيث كان عنوان القضية حتى ذلك الوقت هو "الصراع العربي الإسرائيلي" حتى انتهينا، الآن، إلى خروج العرب من القضية، التي تحولت إلى مجرد "معاناة مجموعة من البشر يطلق عليهم اسم الفلسطينيين داخل دولة حليفة وصديقة لمعظم هؤلاء العرب تسمى إسرائيل"، وهي الحالة التي تخلى فيها العرب عن كونهم أطرافًا في الصراع من أجل استعادة حقوق دولة شقيقة، إلى مجرد وسيط تفاوضي، متحيز وغير نزيه، بين طرفين، أحدهما، برسم القرارات الدولية الموروثة احتلال وعدو، والثاني كان شقيقًا فصار والعدو بالنسبة إليهم، سواء.
ثم تزداد الصورة عتامة وقبحًا حين نصل إلى مرحلة رئاسة فلسطينية، تم اختيارها وفرضها بإرادة إسرائيلية، باتت هي الأخرى لا تخجل من الوقوف على مسافة واحدة من الاحتلال ومقاومة الاحتلال، بل أنها في واقع الأمر للاحتلال أقرب، بالنظر إلى استهجانها وسخريتها من فكرة المقاومة بالسلاح لعدو هو عبارة عن ترسانة أسلحة.
لم تكتف الدول العربية بالاستقالة من قضية فلسطين، بل التحقت بمشروع إسرائيل، كما لم تكتف بالهبوط بالحقوق الفلسطينية إلى ما دون قرارات التقسيم وحق العودة وحدود 1967، بل مضت في تخليص الاحتلال الصهيوني من كابوس حق العودة الفلسطيني، وذلك من خلال الضرب عرض الحائط بقرارات الجامعة العربية الخاصة بمنع توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية، تكريسًا لحلم حق العودة إلى الأرض المحتلة.
على أن أخطر ما يقدّمه عرب التطبيع والتفريط للكيان الصهيوني هو إسقاط الحكاية من مقررات التاريخ التي يدرسونها للتلاميذ والطلاب في الدول العربية.