نتنياهو في الكنيست الأميركي: ذبح الديمقراطية بالأسطورة
كان كلّ شيء في الكونغرس الأميركي قبل يومين صهيونياً توراتياً، باستثناء لافتة رفعتها النائبة رشيدة طليب في وجه سيّد الإدارة الأميركية، بنيامين نتنياهو، تقول له أنت "مجرم حرب"، وعشرات من المقاعد الشاغرة لنوّاب ديمقراطيين قاطعوا هذا الحفل الصهيوني الماجن، فجلس فيها عدد مماثل من كومبارس "أيباك"، المنظّمة الأميركية التي تدافع عن الكيان الصهيوني بالأجر.
بدا بيت التشريع الأميركي بغرفتيه، مجلسي الشيوخ والنواب، وقد تحوّل منظّمة صهيونية تنتمي إلي بدايات القرن الماضي، وتنشط في جمع الأموال وحشد السياسيين من أجل البدء في تهجير اليهود من كلّ مكان في العالم إلى أرض فلسطين لاحتلالها، هنا تحضر الأسطورة في عناق مع الأكذوبة، في تشابك متين مع النصّ التوراتي الذي استخدمه نتنياهو، مباشرة وتورية، مرّات عدّة، مُكرراً أنّ إسرائيل دولة يهودية غير مرّة، فيما راحت مجاميع النواب تصفّق له على كلّ كلمة، وكلّ وقفة، وكل إيماءة، بينما كانت المفارقة الحقيقية تتجسّد خارج المبنى بتظاهرات لليهود المتديّنين تردّد هتافات وترفع شعارات ترفض وجود ذلك الكيان اليهودي الاستعماري على الأرض المُغتصبة، وترفع شعارات إنسانية وسياسية تطلب الحرّية لفلسطين من النهر إلى البحر.
كانت الدماء تقطر من كلّ حرف في خطاب نتنياهو التاريخي أمام الكونغرس، بينما هو يتحدّث عن الإنسانية والتحضّر، وكانت الهمجية ماثلة في جنبات المبنى وطيّات المعنى، بينما هو يتحدّث عن "الديمقراطية" الإسرائيلية، والأميركية، فيما كلّ شيء داخل القاعة كان منقولاً بحذافيره من تجارب دول شمولية متخلّفة محكومة بالاستبداد والطغيان والجهالة، حيث كان التصفيق الحادّ من الوضع وقوفاً لأكثر من خمسين مرّة صورةً طبق الأصل ممّا يحدث في برلمانات جمهوريات الموز، حين يخطب فيها دكتاتور يمسك بإحدى قبضتيه السلطة السياسية والعسكرية، وبالأخرى سلطة الكهنوت الديني.
استدعى نتنياهو نصوص العهد القديم في سياق كلامه للحضور عن أنّ الحرب على الشعب الفلسطيني هي حرب إسرائيل وأميركا، وأنّ أعداء إسرائيل هم أعداء أميركا، وأنّه يخوض القتال دفاعاً عن الأميركيين والصهاينة معاً، على نحو بدا معه وكأنّه زعيم الجناح اليميني الصهيوني المُتطرّف في الحزب الجمهوري، يضع كلامه السياسي في غلاف من الكراهية الدينية، والعنصرية الوقحة، كما فعل دونالد ترامب في بدايات حكمه، إذ قطع شوطاً طويلاً في الاستثمار في الكهنوت من أجل إحياء امبراطورية بدأت شيخوختها، مرتدّاً إلى ما كان يفعله جدّه كريستوفر كولومبوس، وهو يُؤسّس مشروعه للعثور على الذهب والمال في الأرض البكر، بعد إبادة سكّانها الأصليين من الهنود الحمر، بشعارات الدين المسيحي، فيكتب في رسالته إلى البابا ألكسندر السادس سنة 1502: "رحلتي القادمة سوف تكون لمجد الثالوث المُقدّس ولمجد الدين المسيحي المُقدّس... أتمنّى من ربّنا أن يهبني القدرة على نشر اسمه المُقدّس وإنجيله في أرجاء الكون".
بالطريقة ذاتها يفلسف نتنياهو جريمة الإبادة التي ينفذّها باسم أميركا وإسرائيل على الشعب الفلسطيني، والتي حصدت حتّى الآن أرواح 40 ألف شهيد، وجرحت مئات الآلاف، إذ يرى ذلك كلّه ضرورياً وأخلاقياً وقانونياً، من أجل الانتصار لقيم الحضارة الأميركية الصهيونية.
يتوهّم نتنياهو أنّ بمقدوره إلغاء تاريخ المنطقة وجغرافيتها، لإنشاء جغرافيا جديدة على أشلاء شعب أصيل، انطلاقاً من تاريخ مزوّر لإقامة إمبراطورية تحتوي تحت عبادتها من يصفهم بأنّهم شركاؤه العرب في الحرب على محور الشرّ، مدفوعاً بعقدة أنّه دخيل على الجغرافيا، وعلى التاريخ كذلك.
يلفت النظر هنا أنّ أيّاً من "الشركاء العرب" لم يتفوّه بكلمة واحدة ردّاً على هذا السيل الجارف من الأكاذيب والادّعاءات العنصرية الوقحة، ولم يجرؤ أحدهم أن يتصدّى لهذا الصلف الاستعماري كلّه، إذ يعلن أنّه لا مكان لدولة فلسطينية في أرض فلسطين، وأنّه لن يستطيع أحد أن يفتح فمه حين يقول إنّ القدس الموحّدة، بشرقها وغربها، هي العاصمة الأبدية لدولته اليهودية والصهيونية، وكأنّهم ارتضوا أن يكونوا شركاءه فعلاً.