نابوليون وهتلر والنوتيلا

09 مارس 2022

(حسين ماضي)

+ الخط -

لا أحبّ النوتيلا، هذه حقيقة تبدو شاذّة عما تلمسه من ولع بها حولك، أو اعتراف صادم، فالجميع قد وقع في غرام هذا المعجون القابل للدهن، اللذيذ المذاق، الغامق اللون، حتى بتّ أخشى أن أعرب عن رأيي، لكي لا يفتح من حولي أفواههم دهشة، فكيف تكرهين النوتيلا؟ والحقيقة أنني لا أطيق حتى رائحتها، ويكفي أن أنهي هذه المحادثة بدهشة الآخر، وبقولي إن كل إنسان حرّ في ما يحب، وأذكر مثل جدّتي الذي طالما ردّدته: "كل ما يعجبك، والبس ما يعجب الناس"، وأظنها تقصد بالملبس اختيار ما يتماشى مع الذوق العام والعادات والتقليد أيضا.

لست أتوقع، ولن يحدث أن أقع في حب معجون النوتيلا، الذي يدهنه عشّاقه فوق شرائح الخبز، وهناك من لا ينتظر أن يمسحه فوق الخبز ليلتهمه، ولكنه يلعقه في نهم وحب. وفي الحالتين، هو خليط أنجبته الأزمات، ويشبه في رحلة تصنيعه جهاد الشعوب التي تتعرّض للإبادة، وتتبعثر في أنحاء الأرض وتذوب لتبقى، بل لقد أصبح له يوم عالمي، حين أصر مدوّنان في إيطاليا على نقل حبهم معجون نوتيلا أو خليطه إلى مستوىً عالمي، فأنشأوا يوماً عالمياً للاحتفال بهذا المعجون. وبعد عدة محاولات وصراعات بينهم وبين الشركة المصنّعة، جرى تخصيص الخامس من فبراير/ شباط يوما عالميا للنوتيلا، حيث يجتمع عشّاقها لتناولها، وكذلك مشاركة وصفات وذكريات معها.

ولأني لستُ من عشّاقها كما أسلفت، لم أقف عند هذا اليوم إطلاقا، ولكني توقفت عند الصراع الذي خاضته الشوكولاتة التي تدخل في تكوين معجون النوتيلا، بسبب السياسة. وتفكّرت كثيرا بعلاقة السياسة والحروب والمؤامرات في تحديث ذائقة الشعوب وتغيير بوصلتها، فإما أن يجري تحسينها أو فرض تغييراتٍ غريبةٍ عليها. وربما يجري القضاء على تلك الذائقة، وعودة عجلة الزمن الخاصة بالتقدّم والرقي إلى الوراء، عن طريق الغش والتحايل وفرض مبدأ الحاجة أم الاختراع. وأقرب مثال لذلك ما حدث في غزة إبّان عدوان العام 2008، وحيث عدنا، كزوجات شابّات وقتها، لاستخدام موقد الجدّات الذي يجري تشغيله بالكيروسين. ومن خلال فتائل خاصة، تتدلّى من قسمه العلوي، وتلطخت آنيتنا الجميلة اللامعة بالسناج الأسود، وعبقت بيوتنا المغلقة برائحة الكيروسين المحترق، ونال السعال وضيق التنفس من صدور صغارنا، فوضعته على مدخل الدرج المؤدّي إلى بيتي، وصرت أجلس أمامه بالساعات، أسمع أخبار القصف الدائر حولي، من خلال مذياع بدائي أيضا، وأنتظر نضج الطعام فوق هذا الموقد بمعجزة، والذي لم أكن أراه إلا في محلات التحف والأنتيكا.

في عام 1806، حينما حاول نابوليون تجميد التجارة البريطانية وسيلةً لكسب حروبه والسيطرة على العالم، وقد كانت النتيجة حصاراً قارّياً كارثياً، تسبب في ارتفاع تكلفة الشوكولاتة بشكل كبير، وترك صانعي الشوكولاتة في "بيدمونت" الإيطالية في حالة تأرجح، ما حدا بصانعي الشوكولاتة في تورينو الإيطالية أيضا إلى إضافة البندق المطحون إلى الشوكولاتة، لزيادة الإنتاج قدر المستطاع، وقد أطلق على هذا المعجون اسما لا يمتّ بصلة لاسم "نوتيلا"، ثم توقف إنتاجه بعد عودة التبادل التجاري ثانية. ولكن بعد قرن من هذا الزمن، أصبحت الشوكولاتة مرة أخرى باهظة الثمن ونادرة، بسبب التقنين في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وغزو الزعيم الألماني، أدولف هتلر، دول أوروبا، ما دفع صانع معجنات إيطالياً إلى إعادة خلط الشوكولاتة بمسحوق البندق، ولكن هذه الطريقة أنتجت قطعا من الشوكولاتة الصلبة، خصوصا مع إضافة السكر إليها. ولاحقا استطاع أن يحسّنها ابن صانع المعجنات، واسمه ميشيل ابن بيترو فيريرو، حيث أضاف لها بعض الزيت، ما جعلها قابلة للدهن، وأطلق عليها اسم "نوتيلا".

النوتيلا ذلك المعجون المحبوب، والذي تفتق ذهن صناعه في البداية عنه كطريقة غش تجاري ماهرة، وجد طريقه إلى هذا العالم الذي أصبح مولعا به، كابن شرعي للحروب والصراعات التي تترك أزماتٍ اقتصادية ومعيشية للشعوب، والدليل هو بقاء ذلك المعجون المبني في صناعته على غشٍّ بين.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.