مُذكّرة إحضار رئيس الحكومة
أنْ يُحاكَم رئيس أمام القضاء بأيّ تهمة دليل صحّة وعافية ونظام ديمقراطي يسود فيه القانون، ويُحاسب فيه الجاني، مهما علا شأنه أو كبُر مقامه، فضلاً عن أنّ هذا يعني أيضاً أنّ القانون فوق الجميع، وأنّ الحقوق مُصانة، وأنّ القوي ضعيف حتى يُؤخذ الحقّ منه، والضعيف قوي حتى يُؤخذ الحقّ له، وهو دليل عافية هذا النظام، وعافية المجتمع وعافية القضاء فيه. أمّا أن تكون المسألة خاضعةً لابتزاز أو لحسابات سياسية أو انتقائية في تطبيق القانون وإحقاق الحقوق وإقامة العدالة فذاك شيء آخر، لا يمتّ لا إلى العدالة ولا إلى النظام ولا إلى القانون ولا إلى القيم، ولا إلى الاستقرار ولا إلى أيّ شيء من هذه المفاهيم.
أصدر المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار، مُذكّرة إحضار (جلْب) بحق رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، وكلّف الأجهزة المعنيّة في الدولة تنفيذ مضمون هذه المُذكّرة. بمعنى آخر، طلب منها أن تتجّه إلى السراي الحكومي، حيث مقرّ إدارة الدولة (لبنان نظام ديمقراطي برلماني، وسلطة إدارة الدولة منوطة بالحكومة مجتمعة)، وتعتقل هذه الأجهزة رئيس حكومة تصريف الأعمال، واقتياده مخفوراً إلى المحقق العدلي، وذلك لأنّ دياب، بحسب وجهة نظر المحقق العدلي البيطار، لم يمثُل أمامه بعد الادّعاء عليه بجرم الإهمال والتقصير وأمور أخرى في قضية انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس/ آب 2020.
تجاوز القاضي طارق البيطار، أو تجاهل، حقائق ومعطياتٍ جعلت قراراتِه موضع الشك والتصنيف
وللتذكير، أناط الدستور اللبناني محاكمة الرؤساء والوزراء بمحكمة خاصة بهم في حال ارتكبوا ما يستوجب المحاكمة في أثناء القيام بواجباتهم الوظيفية، فضلاً عن أنّه جعل للرؤساء، فضلاً عن الموظفين، حصانة معيّنة، لا تسمح بمحاكمتهم إلا وفق الأصول المُقرّة والمتّبعة دستورياً وقانونياً. وقد رفض مجلس النواب رفع الحصانة عن بعض النوّاب في هذه القضية، للريبة والشك، وإلّا بعد التثبّت من الإخلال الوظيفي. ولذلك، لم يمثل رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب أمام القاضي البيطار يوم 26 أغسطس/ آب سنداً لهذه المعطيات، واعتبر أنّ المحقق العدلي في القضية ليس صاحب اختصاص للتحقيق معه، وفقاً للدستور ووفقاً لما قاله المجلس النيابي. ناهيك عن أنّ نوّابا تقدّموا أمام المجلس النيابي باقتراح قانون لرفع كل الحصانات عن كلّ المسؤولين في قضية انفجار المرفأ، غير أنّ كتلا نيابية، في مقدمها كتلة لبنان القوي، التي يتكئ ويستند إليها رئيس الجمهورية ميشال عون، رفضت الاقتراح وشكّكت فيه.
على كل حال، تعتبر محاكمة الرئيس دياب أو غيره من المسؤولين اللبنانيين مطلباً عند أهالي ضحايا انفجار المرفأ وعند أغلب اللبنانيين. وليس دفاعاً عن الرجل أو غيره، ولكن الطريقة التي قارب فيها القاضي البيطار الملف تثير جدلاً كبيراً وكثيفاً من الشكّ والارتياب، وتضع القضاء على المحكّ وأمام مصداقيته، فالقاضي ادّعى، قبل فترة، على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب وعلى وزراء أشغال سابقين ونوّاب حاليين، وعلى موظفين في الإدارة اللبنانية والأجهزة الأمنية والعسكرية، من بينهم مدير عام الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، ومدير عام أمن الدولة، اللواء طوني صليبا، ولم يمثل أحدٌ من هؤلاء أمام المحقق العدلي في الوقت الذي حدّده له، ليأتي قبل يومين ويُصدر مُذكّرة إحضار وجلب بحق رئيس حكومة تصريف الأعمال في بلدٍ يقوم نظامه السياسي على تقاسم الحصص وتوزيعها بين الطوائف والمذاهب، بما يعني أنّ الرئيس دياب يمثّل في موقعه الوظيفي الطائفة التي ينتمي إليها. وبالتالي، لم يعد الادّعاء على دياب بشخصه، بقدر ما نظرت إليه الطائفة استهدافا لدورها الوطني وحضورها في مواقع الدولة والقرار. وجاء ذلك في وقت يتم فيه وضع العراقيل أمام رئيس الحكومة المكلّف الذي ينتمي إلى الطائفة ذاتها في عملية تشكيل الحكومة، بما يُفشل مساعيه في عملية التشكيل. وهذا ما أثار مزيداً من الارتياب والشكّ لدى أبناء الطائفة، حتى بدا الأمر وكأنّه استهداف لها، وهو ما عبّر عنه رؤساء الحكومات السابقون في بيان أصدروه، وما تناوله مفتي الجمهورية، الشيخ عبد اللطيف دريان، في خطبة الجمعة، عندما رفض هذا الاستهداف وهذه الطريقة التي يتمّ التعامل بها مع رئيس حكومة تصريف الأعمال، أو مع الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة.
أناط الدستور اللبناني محاكمة الرؤساء والوزراء بمحكمة خاصة بهم
لقد تجاوز القاضي البيطار، أو تجاهل، حقائق ومعطياتٍ جعلت قراراتِه موضع الشك والتصنيف، بل موضع اتهام القضاء اللبناني بأنّه يمارس نوعاً من العدالة الانتقائية التي تخدم أجنداتٍ سياسية، ولا تطمح أو تعمل لكشف حقيقة انفجار المرفأ والجهات أو الشخصيات المسؤولة عن ذلك. ويأتي في هذا السياق تجاهله اعتراف رئيس الجمهورية ميشال عون، أمام عدسات الإعلام وفي مؤتمر صحافي، أنّه كان على اطّلاع ومعرفة بوجود مواد قابلة للانفجار وبكمّيات كبيرة في مرفأ بيروت، قبل انفجارها بأسبوعين على أقل تقدير، غير أنّ القاضي البيطار لم يلتفت إلى هذا الاعتراف، ولم يكلف نفسه حتى عناء الاستماع إلى إفادة رئيس الجمهورية الذي أبدى استعداده لذلك. ومن هنا وضع نفسه موضع الشكّ، بل وضع القضاء موضع الشكّ، وأظهر أنّ الموضوع لا يتّصل بكشف الحقيقة بقدر ما يتصل بتصفية حسابات سياسية، وبالتالي ممارسة نوع من العدالة الانتقائية والاستنسابية التي كادت أن تخلط الأمور وتُدخل البلد في أتون أزمةٍ جديدةٍ هو أساساً في غنى عنها.
ما تمارسه السلطة القضائية في لبنان، أو بعضها لنكون أكثر دقّة وإنصافاً، نوع من العدالة الانتقائية أو الانتقامية التي مارستها السلطات من قبل في دول مجاورة وأوصلت الأمور إلى كوارث جعلت الناس تكفر بالقضاء والنظام، وحتى بمؤسسات الدولة.