ميسون صقر... صانعة الفرح لغيرها
لا تصدّقوا ميسون إن أبحرت في السياسة ودعايتها ودروبها الوعرة أحيانا، رغم أنها ابنة سياسَة، ودفعت أسرتُها الثمن غاليا. ولكن صدّقوها فقط حينما تصنع الفرح، ميسون صانعة فرح من دون أن تحصده، وصانعة بهجةٍ في وسطٍ ثقافي، حرمته الكآبة من البهجة لأسبابٍ يطولُ شرحها، وساقية فرح من دون أن تنال غايته. هي هكذا، والحب هكذا، والقدر هكذا، مثابرة في الفن والكتابة معا، ومحبّة للجميع في كل أطراف وطنها العربي.
ثابرت حتى حصدت فرحها الخاص، وهو جائزة الشيخ زايد للكتاب عن كتابها السردي "مقهى ريش .. عين على مصر"، جهد المثابرة والطواف في طرائق الفن والكتابة سنوات، من شعر "كبداية"، إلى التشكيل، إلى الرواية، حتى بات النثر في سنواتها الأخيرة واحتها، حتى كتابها الذي استحقت عنه أخيرا الجائزة.
حينما قرأت لها روايتها الأولى "ريحانة"، أدركت أن روح ميسون قريبةٌ من النثر، حتى كانت "في فمي لؤلؤة"، ثم كتابها الجديد. يظل الكاتب يحرس أمنياته ويربّيها سنوات حتى يعثر على مفتاح كنزه، وتظل كل الطموحات الأخرى في الكتابة والفن والحياة ما هي إلا مجرّد اسكتشات أولية للبحث عما سوف يكون، هل عثرت ميسون على مفتاحها في السرد أخيرا، أم هناك محطّات أخرى؟
تكتب ميسون بروح الهواية والشغف والتطلّع والمثابرة، لا بروح المنافسة أو البحث عن جدارة أو مكانة، وعلّ ذلك قد حرّرها من عبودية التجنيس الأوحد أو النمط الأثير، ولكنها عاشت شغفها شعرا ونثرا وسردا من دون أي ارتباك أو مراهنات في "الصنعة الخائبة"، هي تصنع كتاباتها على قدر ما تراه ويخايلها بلا مبالغاتٍ في الشكل أو متاهات الغموض في قوائم انتظار الإعجاب أو استعراضات الذات وفضائحها أو الموضوعات فاتحة الشهية على موائد الغرب "بحثا عن فضائح في مجتمعها العربي"، أو السعي المحموم لتصدير الموضوعات إلى الخارج بحسٍّ استشراقي، بحثا عن مكانة في الغرب والترجمة .. إلخ، بل تركت لنفسها حرية التنقل والتعبير من دون كهانة أو كهنوت أو موضوع رائج هنا أو هناك.
حاولت في كتابها عن مقهى ريش أن تدخل إلى ذلك السرداب الخاص بمقهى كان من أيام ثورة 1919 المصرية بعينٍ ضيفةٍ نالت من الحضور والمحبّة في مصر على قدر بساطتها، كتابة تفتش في سرداب المكان وشخصياته الذين مرّوا به من النخبة المصرية، فهو مقهى أيقونة، بناسه، وللناس في المكان المغلق عليهم، وعلى أحاديثهم ومنشوراتهم السياسية سحرٌ خاص، يحرّض على فك اللغز أو محاولة الاقتراب منه لصنع كتابة. ولا ننسى أن رائعة نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، كانت عن أسرار وسعادات وخروجات عوامة في النيل يمتلكها المخرج الراحل أحمد بدرخان (والد المخرج علي بدرخان). وحينما سئل محفوظ عن الرواية، أجاب بخفّة روح ومراوغة وتهرب، وقال: "هي العوّامة بلا خمر ولا نساء"، فالمكان المغلق بالمشاهير مفتوحٌ دائما على كل ألوان الغموض والتفاسير، وهو أيضا السرداب الذي يحلو دائما للكتابة أن تدخل إليه محمّلة بشجونها وغموضها، كبيت السعادة واللهو عند الطاهر وطّار في روايته الجميلة "عرس بغل"، ومحفوظ نفسه في فندق ميرامار في روايته "ميرامار"، والقائمة تطول إلى "بيت الياسمين"، عند إبراهيم عبد المجيد التي أعدّها من أجمل رواياته وكتاباته، قبل أن يدخل إلى المواضيع ذات الشحوم الوفيرة والبهارات أيضا. ولكل كاتب "رائجة" يلهث خلفها، وهذا "مقتل" أيضا ولا مكان هنا لتفسيره أو تفسير دواعيه وأطماعه، فنحن هنا أمام حالة فرح بميسون وحصولها على جائزة كبيرة، نحن نحتفي بذاتٍ كانت معنا "جيلنا"، لم تمش وراء صرعة "تراث"، أو إرباك نفسها بوجبة غموض سخيةٍ وساخنةٍ وجاهزة، كي تحيّر القارئ أو تشاغل الناقد. كتبت عما تعرفه وتريده من دون ارتباك أو عجز، في ثلاثية نثرية خلال عشرين سنة، وهي "ريحانة" و"في فمي لؤلؤة" و"مقهى ريش .. عين على مصر"، وهذا حدث رائع، يعبر بجلاء عن فرحة كل محبّي ميسون من المحيط إلى الخليج، وهو استحقاقٌ جميل، لها ولنا، جاء بعد طول مثابرةٍ وصدقٍ منها.