مير حسين موسوي .. النصيحة الأخيرة لفقيه إيران
حمقى الثورات لا يخشون رفاقَهم حين ينتصرون، إنما يخشى الرفاقَ أولئك الذين يخطّطون للبقاء طويلا... الثورة نتيجة حتمية لمسارات موضوعية وذاتية. هي سياقٌ متكرّر يخفي في عمقه متناقضات ونوازع وخيرا وشرورا.. لم تكن قطّ صكّا قيميا وأخلاقيا ولن تكون، إلا في مخيال شبابٍ ينطلقون بجلادةِ عنفوانٍ كثيرا ما وقفتْ حاجزا أمام سماع ما أخبرتنا به تجاربُ التاريخ أنّ رفضَ الأشياء ربما يُخفي معه مسعى إعادةِ إنتاجها بطريقة آخرى.
عن ضحايا أصحاب خطط البقاء طويلاً أنبأتنا تجربةُ فرنسا الثورة يوم قصَل روبسبير رفاقَه مِن اليعاقبة، أمثال جورج جاك دانتون وجاك بيير بريسو. وأنبأنا لينين في رحلة الخلاص من المناشفة وستالينُ في تصفية رفاقه كلِّهم أو جلهم، وفي مقدمتهم تروتسكي. فعَلَها جمال عبدُ الناصر بإعدام رفاقه الإخوان المسلمين، وبينهم شريكاه عبد القادر عودة ومحمد فرغلي، على خلفية حادثة محاولة اغتياله في الإسكندرية العام 1954. وفي العراق، لم يبقِ صدّام حسين على مجموعة انقلاب 1968 في بواكير تصفياته لها، ومن أفلتوا من النهايات المبكّرة أعدموا في مسرحية الرعب بقاعة الخلد 1979، بعد أن عَزَل كبيرَ المجموعة أحمد حسن البكر عن رئاسة الجمهورية. مصر بين عبد الفتاح السيسي والإخوان، تركيا أردوغان عندما أطاحت داود أوغلو وعبد الله غول، تونس سعيّد وهي تنهي داعمي رئاستِه السابقين، دروسٌ كذلك. وفي تجربة إيران يتكرّر ابتلاعُ الحمقى الذين لم يتفكروا في القوة القاتلة التي اصطفوا معها.
يعود، هذه الأيام، إلى الواجهة مير حسين موسوي، مرشّحُ انتخابات 2009 الرئاسية المقامُ عليه جبريا منذ احتجاجات الحركة الخضراء على نتيجة فوز أحمدي نجاد في الانتخابات. ذِكرُ الرجلِ بعد ثلاثة عشر عاما يعود في مقال نشره منذ أيام مِن حيث الإقامة الجبرية، نقَد فيه سياسةَ النظام الداخلية والخارجية، ما يمثل على ما يبدو آخر نصيحة إصلاحية تصدر من بقايا حقبة الثورة الدينية التي قُتل أغلبُ شخوصها مبكّرا، إما على يد نظام الثورة أو بيد رفاقهم المنشقّين.
الموضوع في إيران ليس مجرّد منافسة على الحكم، إنما هناك أزمة أخلاقية وثقافية وسياسية ومجتمعية، وطبعا اقتصادية، يعاني منها النظام
حين عاد آية الله الخميني إلى بلاده بعد 14 سنة من المهجر، كان محاطا بجمهرةٍ من المشتغلين بالثقافة والسياسة والاقتصاد والدين، ممن أرادوا إنهاء المملكة أو تحقيقَ إصلاح جذري. من بين أولئك زميلُه في المؤسسة الدينية، آية الله كاظم شريعتمداي، أستاذ الأخوين رضا وموسى الصدر. أهميتُه أنه كان المرجع الديني الأعلى في قُم عند الثورة، وقبلها ساهم جذريا في نجاة الخميني من الإعدام عام 1963، وعمل على استصدار شهادةٍ تعطيه منزلةَ "مجتهد" الشيعية لحمايته من مشنقة نظام الشاه محمد رضا بهلوي، حيث كانت لا تلتفّ قانونيا على رقاب مَن لهم تلك الصفة.
ناصَرَ شريعتمداري زميلَه، وأراد مثلَه إسقاط الشاه، ثم اختلف بشأن مخرجات ما بعد الثورة وتحديدا الموقف من إقامة جمهورية إسلامية. لم ينته الخلاف، لكن زعيم الثورة انهى تأثيرَ زميلِه بإقامة جبرية غادرها بالموت. الإبعاد من المشهد لم ينحصر في رجل الدين هذا، بل شمل آخرين مثل مهدي بازركان رئيسِ أول حكومة في النظام الجمهوري، وأبو الحسن بني صدر أولِ رؤساء الجمهورية. أولئك كانوا الأوائل، ثم اختلفوا مع زعيمهم على شكل الحكم واتجاهاته. هم وغيرهم فرّوا إلى المهاجر أو بقوا تحت الإقامات الجبرية أو منبوذين داخل البلاد، لكنهم كانوا أوفر حظا من آخرين أعدموا، وهم الأكثرية، فإذا كان الإعدام قد أخطأ تلك الشريحة، فهو أصاب آخرين من رفاق الخميني في رحلة المعارضة. منهم أكثرُهم أهمية وعرّابُ العلاقات الخارجية للخميني خلال فترة وجوده في فرنسا، صادق قطب زاده، وكان موجودا على الطائرة الفرنسية التي نقلت قائد الثورة الدينية من باريس إلى طهران في مطلع فبراير/ شباط عام 1979، وأصبح لاحقا أول وزير لخارجية البلاد قبل أن يُعدم في 1982.
في المقابل، فقَد النظامُ السياسي، مع بدايات تشكّلِه، جلَّ شخوصه من علماء الدين وأتباعهم في اغتيالات وتفجيرات وقف خلفها رفاق الأمس أنفسُهم. صُفي كثيرون على مدار أربعة أعوام من البدايات، وبقي من نجوا ليشقّوا طريقهم في بناء نظام ثيوقراطي شديد التطرّف والأصولية. أحد الناجين كان مير حسين موسوي، رئيسُ الوزراء ما بين 1981-1989، أيْ آخر رؤساء الوزراء قبل إلغاء المنصب لتنحصر صلاحياته بيد رئيس الجمهورية. يقال هنا إن خامنئي الذي كان رئيسا وقتئذ لم يحبّ تقاسم السلطة مع موسوي، لكن إرادةَ الخميني أبقت الأخير، ربما لأنه فضّل وجودَ مسؤول بارز مِن خارج دائرة رجال الدين يكون شريكا لهم في إطار توازناتٍ سياسية. انتظر المتخاصمون موت زعيمهم ليلغوا المنصب ويبعدوا موسوي تماما.
رئيس الوزراء الإيراني الأسبق ذو الواحد والثمانين عاما، يبدو أن عقودا من وهم الصراعات جعلته أنضج وأكثر رغبةً في أن يقدّم آخر النصائح لخامنئي
عاد إليهم من باب انتخابات 2009 إصلاحيا مدافعا عن رؤية محمد خاتمي. انتصر المحافظون، بالتزوير ربما أو بالاعتماد على سكان الأرياف وأطراف المدن المتمسكين بالنظام المحافظ. عندها، انفجر سكان المدن الكبرى في أوسع انتفاضةٍ شعبيةٍ شهدتها البلاد منذ ثلاثين عاما. قُمع الشعب، واعتقل شبان الحراك وشابّاته، وأقيم على رموزه، موسوي وزوجته ومهدي كروبي، جبريا في بيوتهم. حتى ما قبل أشهر قليلة، إذ تردّد في وسائل الإعلام الرسمية أن النظام قرّر رفع بعض القيود بعد 13 عاما. لم تُرفع كلُّها بعد، لكن بعضها يبدو أنه رُفع فعلا، لأن موسوي تمكّن مِن نشر مقال.
ما نشره الرجل تضمن نقدا شديدا للسياسات الداخلية والخارجية. تركّزت أهم نقاطه، وفق موقع BBC الفارسي، في التحذيرِ من وراثة مجتبى نجلِ خامنئي منصب المرشد، وتفصيلات عن قمعِ الحراك المعارض ونشاطِ الحرس الثوري الخارجي. متوقعة هذه المخاوف من شخص استطاع في حملته الانتخابية أن يستقطب حوله شرائحَ واسعة من المعارضين المعتدلين، فضلا عن نسبة غير قليلة ممن يريدون إسقاط النظام نفسه. القضايا تنفذ، في النهاية، إلى عمق ما يقلق النخب الداخلية. فالموضوع ليس مجرّد منافسة على الحكم، إنما هناك أزمة أخلاقية وثقافية وسياسية ومجتمعية، وطبعا اقتصادية، يعاني منها النظام بسبب تلك القضايا الثلاث.
أشار مقال سابق للكاتب نشر في "العربي الجديد"، بعنوان "ثورة إيران بعد أفول الآباء وإبطال السحر" إلى أن مجتبى خامنئي وإبراهيم رئيسي يمثلان متنافسينِ على خلافة المرشد ذي الثلاثة والثمانين عاما. قصة الخلافة ليست رسمية بعد، غير أنها تحكى في تحذيرات المعارضة خارج البلاد، ويُهمَس بها داخل أروقة الحكم. هنا يأتي تحذيرُ أحد بقايا الرعيل القديم من التوريث داقّا جرس إنذار من أن البلاد التي تخلّصت من المملكة، تعيد إنتاج نفسها دينيا وسياسيا في نظام جمهوري، خصوصا أن التحذير نفسه صدر سابقا من الشخصية الأخرى المقام عليها جبريا، مهدي كروبي. يقول موسوي في مقاله "منذ 13 عاما هناك أخبار عن مؤامرة أنه بعد موت القيادة سيمسك ابنُه – مجتبى –زعامة شيعة العالم .. فإذا كان مثل هذا غيرَ صحيح، لماذا لم يُكذّب بعد؟".
فقَد النظامُ السياسي في إيران، مع بدايات تشكّلِه، جلَّ شخوصه من علماء الدين وأتباعهم في اغتيالات وتفجيرات وقف خلفها رفاق الأمس أنفسُهم
توجد في هذا المقطع جملة مفزِعة هي "الزعامة على شيعة العالم"، وهذه ليست ذات دلالة فقط على ما يدّعيه النظام لنفسه، بل قد تتضمّن ما يثير المخاوف من أن المرحلة الإيرانية الحالية توازيها ظروفٌ موضوعية واضحة في المنظومة الشيعية عموما، فالمرجع السيستاني في النجف العراقية طاعن في السن، ما يطرح سؤالا بشأن خلافته. ونظام ولاية الفقيه بدأ مساعيه مبكّرا للتدخل في اختيار المرجع هناك، وهو أمر لم يكن متاحا في ذروة ضعف المؤسّسة الدينية النجفية.
ثاني ما ركّز عليه موسوي من قضايا؛ أن النظام استخدم الحرسَ الثوري وقوى التعبئة "البسيج" في قمع الحراك الشعبي المعارض، وتحديدا الحركة الخضراء، بقيادة شخصٍ هو مسؤول الحفاظ على الأمن في العاصمة، الجنرال حسين همداني. قُتل همداني هذا في الحرب السورية، ليكون التطرّقُ له مدخل القضية الثالثة الأساسية وهي دور الحرس الثوري في الشرق الأوسط. وكأن ذلك رسالةٌ للإيرانيين تتضمّن قولا إن مشروع تمدّد الحرس الثوري في المنطقة مرتبط بسياسة القمع المعتمدة في الداخل، هي منظومة واحدة من الجريمة. هنا يستخدم موسوي مفردةَ "مخجلة" للتعبير عن جرائم الحرس في الحرب السورية. ويذهب أكثر، متحدّثا عن سوء سمعة حزب الله والمساهمة في إنشاء "داعش"، وتقرُّب دول عربية إلى إسرائيل والحرب القبلية والطائفية في اليمن، باعتبارها نتائج للنيات الشرّيرة في انحرافات أدبيات النظام.
يبدو أن عقودا من وهم الصراعات جعلت رئيس الوزراء الإيراني الأسبق ذا الواحد والثمانين عاما، أنضج وأكثر رغبةً في أن يقدّم آخر النصائح لخامنئي، شريكه السابق في رِفقة الأمس، بأن يغيّر قبل فوات الأوان. نصيحة لا تبتعد كثيرا من حقيقة أن المنظومة السياسية الإيرانية، بمعزل عن التحالفات الدولية والقدرات النووية والاتفاق الدولي بشأنها، ترزح تحت وطأة مجموعة من رجال الدين الطامحين إلى مزيد من السلطة، وتحت الجنرالات في بنية مليشياوية داخلية وخارجية، ما ينجم عنه قتْلُ طاقات البلاد بيد الحراس والكهنة واستمرارٌ في السقوط الأخلاقي والثقافي، رغم شعارات "الثورة" المتصدّية لـ"الاستكبار".