موسم صيد الفقراء
من الطبيعيّ أنّ كلّ إنسان ذي ضمير وإحساس لا يستطيع أن يلفظ شعوره بالأسى على الفقراء في المواسم والأعياد، بخاصة أنك تجدهم يجاهدون لكي يستغلوا هذه الأيام لكسب بعض الرزق، فيما يكون الرزق شحيحاً باقي العام، وإن أردتَ القياس، فتبدأ بالدول التي تجد في موسم الحج تنشيطاً للاقتصاد. وعلى مستوى المواطن البسيط، كثيرون لا يملكون وظيفة أو عملاً ثابتاً، لكنّهم يستغلون المناسبات والمواسم لاقتناص الرزق، فمثلاً تجد من يعمل في قطف الزيتون، ثم يعمل في بيع الألعاب خلال أيام عيد الفطر، ثم ينتقل إلى بيع لوازم الصيد وأدوات السباحة على شاطئ البحر، ثم ينتقل ليبيع آلات الذبح والسلخ ومستلزماتهما، ما لم يعمل جزّاراً في أيام عيد الأضحى، ثم يعود ليفكر بوسيلة أخرى تدرّ عليه رزقاً بسيطاً. وغالباً ما تكون ليست ذات اعتبار، مثل أيام المواسم التي يستغلها في الحصول على المال لتأمين أسرته لأيام مقبلة، لكنّ ذلك لا يمنع أن يرتكب مخالفاتٍ ويخرق القوانين، ولا يمنع أيضاً أن تكون الحكومات له بالمرصاد، وكأنّ مخالفته هي السبب في تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، وانهيار قطاع السياحة مثلاً حين يحطّ رحاله ببضاعته المزجاة أمام بوابة فندق أو منتجع سياحي.
ثارت مواقع التواصل الاجتماعي، في أيام عيد الأضحى الفائت، بسبب حادثة ومخالفة قام بها جزّار مصري، حيث استغل فرصة أيام العيد، لكي يعتدي على المرافق العامة. وهو أراد استغلال أيام العيد المعدودة لكي يحقق أكبر ربح ممكن، فالجزار عادة يذبح الخراف والأبقار ويسلخها ويعدّها لأصحابها، لكي تكون جاهزة لتصبح قطعاً صغيرة من اللحم يسهل توزيعه على الفقراء والأقارب والأحبّة. ولذلك مهنة الجزّار من المهن التي تنشط موسمياً، بخاصة أنّ أهل المدن تحديداً يعيشون في بيوت ضيّقة معلّقة، ولا يجيدون الذبح والسلخ بأيديهم أسوة بأهل القرى مثلاً، لكنّ الجزّار المصري الذي أراد استغلال هذا الموسم قام بعمل شائن، إذ علّق الذبيحة على قائم إسمنتي ضخم ضمن مشروع "المونوريل" الأول في مصر، وهو نظام مواصلات، سوف ينضمّ إلى منظومة النقل النظيف بالقطارات الكهربائية في القاهرة، ومن المزمع افتتاحه خلال هذا العام، لكنّ الجهل أو السذاجة أو الشعور بالحنق الباطن على الوطن الذي يموّل مثل هذه المشاريع الضخمة فيما يتضوّر الملايين جوعاً ولا يجدون وسيلة لكسب الرزق سوى انتظار المواسم هو الدافع لشهوة الشعور بالانتصار على القوانين والتهرّب منها.
فلو أن الحكومات ترغب في الحفاظ على المرافق العامة وحمايتها من التلف، لوضعت خطّة لتأمين عمل المشاريع الموسمية التي لا تستمر فترة طويلة، مثل الجزار الذي يحتاج مكاناً يؤدّي به عمله في أسرع وقت، بدلا من الانتظار في الأماكن الحكومية المرخّصة والمخصّصة، وتعرف باسم المذابح أو المسالخ. وهذه الأماكن تتعرّض للضغط والزحام، ما يعني أن الجزار لن يظفر سوى بذبح ذبيحتين على أكثر تقدير، وهو ينتظر دوره. ولذلك لو أن الحكومة تقوم بتأمين أماكن متنقّلة للذبح لما لجأ مثل هذا الجزار لهذا العمل المسيء، كما أن فشل الحكومة في تغيير الصورة الذهنيّة لدى الوعي الجمعي بشأن الممتلكات العامة من أسباب مثل هذه السلوكيات.
حُرّرت للجزار غرامة مالية كبيرة، في حين أكّد أحد المحامين أنّ عقوبته تصل إلى السجن بحدّ أقصى خمس سنوات. وبتأكيدنا أننا لا يمكننا أن نتضامن مع هذا الفعل، علينا أن نتذكّر أنّ هناك غيره ممن يستغلّون ويتلفون المال العام طوال السنة، مثل الموظفين الحكوميين، وعلينا أن نتذكّر أنّ "قانون ساكسونيا" في القرون الوسطى الذي كان يحكم بإعدام الفقير وقطع رأس ظل الثريّ والنبيل لم ينقرض وما زال سارياً. ولذلك هذا القانون هو الأب الروحي لمعظم الجرائم التي أقلُّها، ولسوء حظ مرتكبها ضُبطت، هو إحداث "خرم" في قائم خرساني ضخم.