من يوقف عبث قيس سعيّد؟

07 ديسمبر 2022
+ الخط -

تشهد تونس في 17 الشهر الجاري (ديسمبر/ كانون الأول) أول انتخابات تشريعية، في ظل حكم الرئيس قيس سعيّد، لكن ما يميزها هو المقاطعة، بل اللامبالاة الكبيرة التي تشهدها في مظهر غير مسبوق، فقد أعلنت الأحزاب الكبيرة مقاطعتها هذه الانتخابات، وعبّر عن الموقف الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو أكبر منظمة نقابية في البلاد، ووصف رئيسه نور الدين الطبوبي هذه الاستحقاقات بالعبثية، لأنها بلا معنى ولا طعم، ودعا إلى مقاطعتها.

وملامح العبث ليست بعيدة عن الانتخابات التي قد تفرز برلماناً يشبه حالة الفوضى التي أدخل إليها قيس سعيّد بلاده منذ انقلابه على جميع مؤسّساتها المنتخبة والدستورية، وتهميشه الأحزاب، ومحاربته خصومه من السياسيين والمنتقدين نهجه الانفرادي الذي يمضي في بناء أسوأ ديكتاتورية فاشلة في عصرنا الحالي.

ومن بين مفارقات هذه الانتخابات العبثية أنّ عشرات من المترشّحين لها جرى انتخابهم مسبقاً، حتى قبل تنظيمها، بما أنهم سيتقدّمون لها من دون منافسين في دوائرهم الانتخابية، وسيُنتخبون تلقائياً وفقاً للقانون الانتخابي الغريب الذي وضعه سعيّد، ويقوم على اللوائح الفردية، ما سيعطي تونس برلماناً غير متجانس من أشخاصٍ يجمع بينهم ولاؤهم للرئيس سعيّد، ودفاعهم عن قراراته الانقلابية.

من بين مفارقات هذه الانتخابات العبثية أنّ عشرات من المترشّحين لها جرى انتخابهم مسبقاً، حتى قبل تنظيمها

ما تشهده تونس نوع من الاستبداد الانتخابي الذي يأتي تتويجاً لمرحلة من العبث السياسي التي أدخل لها سعيّد بلاده منذ قرّر مصادرة كل السلطات لصالحه، وإغلاق قوس الانتقال السياسي الذي كانت تشهده تونس منذ قيام ثورتها قبل نحو 11 سنة، فهذه الاستحقاقات ستجرى في حالة استثناء غير معلنة، لكنها رسمية وقائمة منذ صادر الرئيس جميع السلطات ونصّب نفسه حاكماً وقاضياً ومشرّعاً وحيداً، وسط صمت ملايين التونسيين أو لا مبالاتهم، بينما هم الذين يتحمّلون مسؤوليتهم في ما يجري في بلادهم، لأنّهم من سمحوا لحالة العبث الحالية أن تستمر طوال هذه الفترة، حتى بات صاحبها يعتقد أنّ كلّ ما يأتي به خوارق لم يسبقه إليها أحد، فيما هو يعيد بناء أسوأ ديكتاتورية عرفتها تونس في تاريخها الحديث.

ما الذي يمكن أن نتوقعه من انتخاباتٍ تقاطعها أغلب الأحزاب، ويقاطعها أقوى اتحاد في البلاد، ويقاطعها المترشّحون والناخبون؟ الجواب بناء ديكتاتورية انتخابية تؤسّس لعصر الاستبداد الانتخابي الذي انطلق مع انتخاب سعيّد قبل سنتين ونيف. وبدلاً من التعدّدية السياسية التي كان يعرفها النظام التونسي منذ قيام الثورة، أدخل سعيّد البلاد إلى مرحلة جديدة من الابتذال السياسي، لتصبح الانتخابات بلا معنى، وهي اليوم كذلك، من وجهة نظر تونسيين كثيرين يعتبرون كما لو أنها ألغيت مسبقاً، بحكم الأمر الواقع الذي فرضه الاستبداد السياسي لسعيّد.

ما تشهده تونس اليوم هو مقدّمات لتأسيس صورة مشوّهة من جنون العظمة الانتخابية عند قيس سعيّد

يخشى الرئيس الذي جاء من الفراغ من بناء شرعياتٍ منافسة له، والحفاظ على "شرعيته" هو، المطلقة، التي تخوّل له التحكّم في كلّ السلطات، بل جمعها بين يديه، هو من يقرّر في مصيرها حسب مزاجه الغامض الذي يؤسّس لديمقراطية غريبة تشوّه مفهوم الديمقراطية نفسه، وتحول آلياتها إلى مجرّد أدوات لشرعنة الاستبداد الفردي الذي سينتهي بقتل الديمقراطية، بعد أن يفرغها من كلّ معنى. وهنا خطورة حالة العبث التي تشهدها تونس، ليس بالنسبة لتونس فقط، وإنما أيضاً بالنسبة للنظام الديمقراطي الذي تطاوله انتقاداتٌ كثيرة، لأنّه يسمح، في نهاية المطاف، بإنتاج أعداء الديمقراطية الذين ينقلبون عليها، ويؤسّسون لأنظمة شعبوية ديكتاتورية، أو أنظمة استبدادية تقوم على تمجيد الشخص.

نحن أمام جيل جديد من الديمقراطية الهجينة التي تؤسس للاستبداد الفردي، وفي الحالة التونسية، ومع وجود رئيس يشكل، في حد ذاته، حالة نفسية غريبة، فإنّ ما سينتج عن هذا العبث نوع من الجنون الفردي، عندما يجد الرئيس الذي لا يعرف أي أحدٍ كيف يفكّر، نفسه حاكماً فردياً بآليات حكم صنعها بنفسه، وعلى مقاس قدرته الاستيعابية لمفهوم الحكم، هو من يحكُم ويشرّع ويقاضي خصومه ومنتقديه. وفي هذه الحالة، ستصبح كل معارضة للعبث الحالي بلا معنى، لأنّ الهدف الأساسي منه قتل السياسة، وهذا ما يفعله قيس سعيّد منذ جاء إلى الحكم بدم بارد، وأمام مرأى الجميع وسمعه بل صمته. والضحية في مسرح العبث الكبير هذا هو الشعب التونسي الذي تُرتكب باسمه كل هذه المسرحية، لأنّ من يعتقد أنّ الشعب هو المستفيد لأنه هو الذي سيمثل نفسه بنفسه في انتخابات سعيّد واهم، وعليهم أن يتذكّروا اللجان الثورية الشعبية، وبرلمان الشعب في عهد الديكتاتور الليبي الراحل معمّر القذافي، والنتائج الكارثية التي أصلت لها ليبيا بعد أربعة عقود من حكم عبثي ومجنون في الآن نفسه. وما تشهده تونس اليوم هو مقدّمات لتأسيس صورة مشوّهة من جنون العظمة الانتخابية عند قيس سعيّد. باسم الشعب المغلوب على أمره، قامت أسوأ الديكتاتوريات عبر التاريخ، ومن خلال الكلمات الطيبة، تأسست أشكال مخيفة وبشعة من الأنظمة التي تبيع الوهم للناس مقابل شرعياتٍ مزيفة للتحكّم في مصائرهم وقيادتهم نحو المجهول. وهذا ما يحدث اليوم في تونس.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).