من وقع في الفخّ ... الغنّوشي أم قيس سعيّد؟
حلّت في تونس ساعة القطيعة واستعراض قوة الدولة. جرى اعتقال راشد الغنوشي بتهمة "الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم بالسلاح وإثارة الهرج والقتل السلب". مشهد يؤكّد أن الرئيس قيس سعيّد اتّخذ القرار وتجاوز التوافق الضمني الخاص بترك الغنّوشي في حالة سراح، والاكتفاء بملاحقة بعض مساعديه. كما قرّر إغلاق مقارّ حركة النهضة تمهيدا لحلّها وسحب الغطاء القانوني واعتبارها حركة إرهابية متمرّدة على الدولة. بذلك، يتكرّر سيناريو التسعينيات، ولكن مع تغير السياق والرموز.
يستند قرار السلطة إلى ضرورة التعجيل بشطب المعارضة، بحجّة أن البلاد بحاجة إلى الاستقرار. يكون ذلك بالتصدّي لحزب النهضة، الحزب الاكبر، ومنع حلفائه من التحرّك، وذلك بالاعتماد على المؤسّسات الصلبة. لهذا أعلن الرئيس سعيّد في حفل الاحتفال بالذكرى الـ67 لقوات الأمن الداخلي: "إننا نخوض الحرب دون هوادة ضد من يسعى إلى ضرب الدولة ومؤسساته، لأنه لا وطنية لهم". ووصف هذه بأنها "حرب تحرير" و"جبهة قتال".
انتظر سعيّد أن يوفّر له خصمه الرئيسي، راشد الغنوشي، الفرصة التي قدّمت له على طبقٍ من ذهب، حين أقدم الأخير على القيام بتصريح غير موفّق في هذه الظروف غير الملتبسة، حين استعمل مصطلح الحرب الأهلية في سياقٍ قابل للتأويل. تصريح اعتبره عبد اللطيف المكي الذي غادر "النهضة" بعد أن عمل طويلا إلى جانب الغنوشي "غير موفّق وغير واقعي".
فوجئت الحركة بإيقاف زعيمها، ووجدت نفسها اليوم في وضع دفاعي وضعيف إلى حد ما. هناك توجّه داخل الحركة نحو العودة إلى السرّية بسبب توسّع اعتقال عناصرها القيادية. كما أنها تراهن على حلفائها داخل الساحة السياسية لمواصلة الحراك الاحتجاجي، الذي تتولّى قيادته وتأطيره جبهة الخلاص، من أجل توسيع دائرة المعارضة وعدم الاقتصار على أنصارها.
عشّاق الرئيس سعداء باعتقال الغنّوشي، وذهب بعضهم إلى حد القول إن حركة النهضة انتهت. يتوهمون أن الحركات العقائدية تتبخّر بقرار أمني. وشاع في مواقعهم الإلكترونية خطابٌ يقطر شماتة ويتّسم بالعنف. أما الخصوم الأيديولوجيون، مثل القوميين أو الوطنيين الديمقراطيين، فقد رحبوا بهذا الاعتقال، بسبب إصرارهم على أن الغنوشي يقف وراء اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. في المقابل، انتقدت أطراف سياسية وفكرية، رغم خصومتها مع الغنوشي وحركته، ما سمّاه بعضهم "الغباء السياسي للسلطة"، فهم يؤمنون بالتصدّي للإسلاميين، لكنهم متمسّكون بأن يجرى ذلك وفق القانون وبناءً على ملفّات حقيقية.
دوليا، توالت مواقف الحكومات الغربية بالخصوص، معبّرة عن قلقها تجاه الخطوة الجديدة التي أقدم عليها الرئيس سعيّد، واعتبرتها متعارضة مع المبادئ الديمقراطية. لكنها تعلم جيدا أن الرئيس التونسي لن يستمع لها، ولن يأخذها بعين الاعتبار، فلهذه الدول والمنظمات الكبرى، بما فيها مؤسسات الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي والادارة الأميركية، منطق وأولويات مناقضة تماما لما يؤمن به سعيّد وما يعمل من أجله.
حقيقة، قدّمت السلطة في تونس خدمة كبيرة لراشد الغنّوشي في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة من مسيرته السياسية. لقد تعدّدت خسائرُه في السنوات الأخيرة حتى بدأ المحيطون به يتهيأون لخروجه السياسي، لكنه اليوم، وهو في السجن من أجل ملف سياسي قال عنه خصمه محمد عبده: "ما قاله الغنوشي لا يمكن أن ينطبق عليه أي نصّ قانوني"، ويواجه تهما تصل إلى حد الإعدام. هكذا استعاد زعيم النهضة وضعية "المظلومية"، وعاد ليحتل صدارة الاهتمام داخليا وخارجيا، وصمتت الألسن التي كانت تنتقده داخل الحزب. وعادت الحركة الحقوقية العالمية إلى اعتباره سجينا سياسيا، وستضطرّ الحكومات الغربية، صدقا أو تكتيكا، إلى اعتباره سجينا سياسيا، بل وشيخ السجناء السياسيين، خصوصا أن السلطة ترى في كل خصومها أعداء، من دون أن يساعد ذلك على حل أي ملف اقتصادي أو سياسي. وهو ما يجعلنا نتساءل: من وضع فخّا للآخر: قيس سعيّد أم الغنّوشي؟