من وقائع 2022 ثقافياً
ليس من تمايزاتٍ خاصّةٍ عوينت في المشهد الثقافي العربي في العام الذي غادَرنا (2022)، تجيز القول إنها طبَعت هذا العام بميسمٍ محدّد، جعلته يختلفُ، نوعيا، عن الأعوام التي سبقته، أقلّه في السنوات العشر الأخيرة. وإنْ في الوسع القول إنّ سؤالا ثقافيا عربيا تبدّى مطروحا في غضون مونديال قطر، لا يتعلّق فقط بقدرة بلدٍ عربيٍّ على تنظيم تظاهرةٍ كرويةٍ كونيةٍ برقيٍّ عالٍ، وإنما أيضا بتحويل الدوحة إلى عاصمة عروضٍ مسرحيةٍ وموسيقيةٍ وندواتٍ وأمسياتٍ ثقافيةٍ في مسارح ومتاحف عديدة، في أنشطةٍ تنوّعت، وتعذّر عدّها، كان بديعا فيها أنّها تعلّقت بإبداعاتٍ وثقافاتٍ عربيةٍ وأجنبيةٍ كثيرة. بالتوازي مع تظهير بعضٍ من ثقافة العرب وفولكلورياتهم وانفتاحهم الأخلاقي على مختلف الأمم والشعوب، فيما كشفت لوبياتٌ نافذةٌ في الميديا الأوروبية عن روحٍ عدوانيةٍ فوقيةٍ تجاه العرب (من خلال التجرّؤ على دولة قطر)، وقيمهم وثقافتهم، بعنصريةٍ أحياناً، وبجهلٍ وتجهيلٍ ظاهرَين. والبعد الثقافي في هذا الأمر إنما هو في أنّ العرب مطالبون بمعرفة أدواتهم وتمتينها في الاحتكاك مع العالم ومواجهة استهدافهم في وسائط الإعلام ومنصّات الثقافة في غير بلدٍ أجنبي.
عدا عن المناسبة الكروية الثقافية الحضارية، العروبية في واحدٍ من تفاصيلها، شهد 2022 ما شهدَه غيرُه، معارض كتب وإصدارات جديدة، بعضها قيّم وله أهميّته وإضافته، يمكن ملاحظة رواج الإصدارات الروائية، بالوتيرة الملحوظة منذ أعوام، وكذا كتب المذكّرات والسير والذكريات، وحافظ نشر الترجمات عن اللغات الأجنبية على وتيرتِه، مع حفاظ الرداءة والسويّة الضعيفة على وتيرتها المعلومة أيضا. ومُنحت الجوائز الدورية لمن اختيروا لها، وانتظمت أنشطةٌ ومهرجاناتٌ ومواسمُ وأوراشٌ، وغاب أدباءُ ومفكّرون وفنانون أحزَن رحيلُهم محبّيهم وقرّاءهم. وبذلك، لا نقع على أمرٍ خاصٍّ أو متمايز، وإنْ يجوز التنويه بأنّه زيدت إلى الجوائز المخصّصة للإصدارات الروائية هذا العام واحدة جديدة، أطلقتها وزارة الثقافة الفلسطينية، سمّيت جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية، استحقّتها روايةٌ حسنة المستوى للسوري، المغيرة الهويدي، "قماش أسود".
وإذا كانت المنصّات الرقمية والمواقع الإلكترونية شهدت في العام المنصرف نفوذا أوسع، وجمهورا يزيد يوما بعد آخر، فإنّ غربلة النوعيّ والجديد والمهم، والذي يضيف ويفيد ويجدي من بين الكثير الذي يحتشد به فضاء الميديا الإلكترونية تحتاج إلى جهدٍ ليس هيّنا، وإنْ ليس من التسرّع في شيء أن يقال هنا إنّ الدبس قليلٌ من هذا الخرّوب الكثير. وليس من التزيّد أن يقال أيضا إنّ إطلاق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الموقع الإلكتروني jerusalemstory.com يعدّ حدثا ثقافيا، عظيم الأهمية، لما في الرؤية في فكرة هذا الموقع الذي يختصّ بالقدس، ذاكرةً وحضارةً وثقافةً وفضاءً، من جِدّة، وما لها من أهمية قصوى، فالموقع باللغة الإنكليزية، ويوفر خدمة بالغة الأهمية في تقديم القدس وطرح قضيتها، وما تتعرّض له من استهداف صهيوني وأكاذيب إسرائيلية، والتعريف بكل ما يتّصل بحاضرها وماضيها للجمهور القارئ باللغة الإنكليزية، عدا عن أنه موقعٌ يتغذّى بموادّه، ومنها الفيلمية والفوتوغرافية، والرسوم والخرائط، من دون توقّف، ولا يدّعي القائمون عليه، وهم مختصّون، كمالا أو اكتمالا، وهو الذي يشارك في العمل عليه عدّة باحثين ومعاونين وتقنيين، بمهنيةٍ وكفاءةٍ ملحوظتين، بإشراف كيت روحانا.
عطفاً على ما سبق، أو قبله وبعده ربما، اشتدّت الأزماتُ الاقتصادية على المجتمعات العربية، وضربت كثيرا القدرات الشرائية لفئاتٍ ما انفكّت تتّسع، فكان لهذا كله أثره غير الهين، والسيئ بداهة، على "سوق" الثقافة ومنتوجاتها، وعوين في التناقص المشهود في اقتناء الكتب ومقروئيّتها، بسببٍ من الغلاء الذي يتصاعد، وفي تراجع جمهور العروض المسرحية والسينمائية، على تنوّع مستوياتها، الجادّة والتجارية. وقد دلّ إغلاق مكتباتٍ معروفةٍ بحضورها المديد في غير بلد عربي، في سورية ومصر والمغرب وغيرها، في العام الذي رحل، على وطأة التحدّي الاقتصادي الضاغط على استهلاك المنتوجات الثقافية، الإبداعية والفكرية وغيرهما.
رحل 2022، ولا نظنّه العام الجديد سيختلف عنه كثيراً، في الشأن الثقافي.