من هالة إلى نيرة.. القاتل ليس محمد رمضان
تخيّل لو أن القاتل كان يمسك بلافتةٍ مكتوب عليها ارحل، بدلًا من السكّين، وتخيل أنه كان يتحرّك بين الجموع هاتفًا بسقوط النظام، لا راكضًا خلف الضحية.. هل كان هؤلاء المارّة في الشوارع سيكونون على السلبية نفسها مكتفين بالفرجة عليه، وهو يحاول أن ينحر الوطن بالهتاف المعارض ويمزّق الوطن بلافتةٍ مسيئة؟ هل كانت الشرطة ستسمح له بالتحرّك خطوة واحدة باللافتة والهتاف من دون أن تطلق عليه الرصاص، أو تنهال عليه بالضرب وتفتك به قبل أن تعتقله، ثم تعلن انتماءه لجماعة إرهابية، وتلقي القبض على مئات للاشتباه بهم في مشاركته الجريمة؟
الحل الأسهل والأسرع في فاجعة نحر الطالبة في جامعة المنصورة (مصر) على يد زميلها في الجامعة ذاتها، في عرض الطريق وأمام أعين الناس، أن تتهم المجتمع وتدينه، وتتحدّث عن خرابه الروحي والقيمي، وتتهمه بالمشاركة في الجريمة بالصمت والعجز والسلبية، غير أن هذا ليس كل شيء في الكارثة، إذ الأوْلى هنا هو محاولة الإجابة عن السؤال: من الذي أقصى المجتمع عن شؤون المجتمع؟ أو بالأحرى، من الذي جعل المجتمع ينسحب من المجتمع، ويفقد تلك المناعة الطبيعية ضد الجريمة بكل أشكالها وصورها؟ ما الذي أصاب الجمهور بالرعب من فكرة محاولة التصدّي للخطأ والضرر والجريمة، أو حتى التعبير عن سخطه من تحوّل الشارع المصري إلى بؤرة خطر، يفكّر المواطن ألف مرة كيف اجتيازها من دون خسائر، ذاهبًا إلى مكتبه، أو عائدًا من جامعته أو مصنعه؟
لا أعلم كم تبلغ المسافة بين المكان الذي سالت فيه دماء الطالبة الشهيدة، بسكّين زميلها الجامعي، المسكون بيقين أنه يمتلكها وأنه، وحده، الأحقّ والأجدر بالارتباط والزواج منها، ولو بالقوة والغصب، والمكان الذي سفكت فيه دماء الطالبة هالة أبو شعيشع، في المدينة نفسها، في أحد نهارات يوليو/ تموز 2013 بسلاح بلطجي مسلّح يهتف تحيا مصر، ويعلن عن حبّه للوطن بنحر المعارضين للسلطة الجديدة؟
قد تطول المسافة أو تقصُر، لكن المؤكد أننا بصدد جريمتي قتل لفتاتين بريئتين، على مرأى ومسمع من مجتمعٍ واحد، أو شارع واحد، صوّره الإعلام الرسمي، الناطق بلسان الجهاز الأمني والنظام السياسي، في الحالة الأولى على أنه مجتمع سليم العقل والروح، يشارك ويحتفل ويرقص فرحًا لتحرير الوطن واستعادته من الأعداء الإرهابيين، من دون أن تتوقّف عمليات شحنه وحشده من أجل المزيد من (النضال) لاستئصال (الأعداء) بالسلاح الناري والسلاح الأبيض والعبوات الحارقة، ومن لم يستطع فعن طريق الإبلاغ والوشاية بجارٍ أو قريبٍ تبدو عليه علامات رفض ما يجري، حتى لو كان هؤلاء المستهدفين بالإبادة، قبل أسابيع فقط من ذلك التاريخ، مصدر المساعدات الاجتماعية والمعونات التموينية للناس.
كانت الجرائم تُرتكب في عرض الشارع فلا تعاقب عليها السلطة، أو تمنعها، بل تحرّض وتكافئ عليها، ثم ترفّه عن مرتكبيها بأغنياتٍ راقصة، منتجةٍ خصيصًا للأيادي التي تقتل بعض المجتمع حبًا في الوطن، وقد سجلت وقتها أن إن أفدح خسائر ذلك الذي جرى في 30 يونيو/ حزيران 2013 أنه جعل مصر أقلّ إنسانية ونبلا.
لقد صارت الجلود أكثر سماكةً، والضمائر أكثر بلادة، والبصائر تحت البيادة، بحيث لم يعد الدم يستفزّ بعضهم أو يهزّ إنسانيتهم التي كانت.
مع جريمة ذبح الطالبة نيرة على يد زميلها العاطفي المجرم، أول من أمس، في مدينة المنصورة، تجد الذين كانوا يشيدون بالمجتمع، ويصفقون له على دوره في قتل هالة أبو شعيشع وطالبات المنصورة 2013، ينهالون بالسياط على المجتمع نفسه الآن، ويحمّلونه مسؤولية دماء الطالبة نير.. ثم يلعنون محمد رمضان، باعتباره الممثل الذي يقدم فنًا يحرّض على هذا النوع من الجرائم، ويجعلها اعتيادية. وهذا أيضًا اختزالٌ مخلٌّ للمأساة وتجاهل لأسبابها الجوهرية، فالشاهد أن الدراما القبيحة التي يقدّمها محمد رمضان، وأي محمد رمضان آخر، هي اختيار مقصود من سلطةٍ، تنفق عليها بسخاء وتروّجها بخطاب سياسي وإعلامي يمجّد التسلط والانتهاك والتجبر والبطش، باعتبار ذلك كله من محدّدات القوة، قوة الوطن وقوة نظامه السياسي، وعلى المجتمع أن يتعاطى مع هذا الواقع، لكي "نبني البلد ونحميها ونكبرها ونعظمها".
غطرسة القوة تجدها وقد تدحرجت من الجالس في قمة هرم السلطة، إلى مثل ذلك الطالب الجامعي الذي ذبح زميلته حتى لا تكون لغيره. هنا هل تجد فرقًا بين سيكولوجية الشاب الممتلئ بيقين أنه صاحب ملكية الفتاة والسلطة عليها والشخص المسكون بيقين أنه صاحب الوطن، بل هو الوطن ذاته، والمالك الوحيد للسلطة عليه، مكلفًا من السماء بذلك؟
أتخيّل ذلك الشاب وهو يمسك بالسكين ويقترب من ذبح زميلته الشهيدة، وهو يردّد بصوت داخلي: إنها لي وحدي، ولا أحد أجدر بها أو يصلح لها غيري، ومن يقترب منها "هشيله من على وش الأرض"، فلمّا لم يقترب منها أحد، ووجدها هي نفسها تلفظه ولا تريده، قرّر أن يجتثها هي شخصيًا من فوق الأرض ويستأصلها من الوجود كله.
سهل جدًا أن تعلن أن المجتمع تحلّل.. أو تلعن هذا المجتمع وتعتبره غير صالح للبشر، ومشارك في جريمة فتاة المنصورة، لكن في هذا ظلم وافتئات على مجتمع هو نفسُه الذي ثار وانتفض من أجل حياة شاب اسمه خالد سعيد قبل 11 عامًا، ولم يهدأ حتى أسقط نظامًا كاملًا.
هذا المجتمع، بسلبيته وتوحشه واستسلامه لمنطق البطش، هو أيضًا ضحية لنظام سياسي يهمّه أن يبقى المجتمع يلعن بعضه بعضًا، حتى يفقد الثقة في أنه جدير بحياة أفضل، ويفقد القدرة على التعايش مع اختلافاته، ثم لا يجد من يحاول دراسته بعمق، أو يتصدّى لمهمة ترميمه ومعالجة شروخه وتصدّعاته، قبل أن ينقضّ، وخصوصًا مع غياب المناخ الذي يدعم إجراء دراسات اجتماعية جادّة وصادقة لبنية المجتمع المصري، في ظل تحوّل غالبية المختصين بعلم الاجتماع إلى نموذج الخبراء الاستراتيجيين، بالمفهوم السلبي المباشر لهذه الصفة الذي يحيل مباشرًة إلى اختراعات الكفتة وفنون الدجل والشعوذة في الاقتصاد والسياسة.