من قتل لاعب الشطرنج؟

15 ديسمبر 2023
+ الخط -

لا يجد الأفراد في الحروب المائعة التي تستقوي فيها قوى كبرى على فئةٍ قليلةٍ لا ذنب لها سوى سعيها إلى الحرية، ما لم يكونوا داخل المنطقة المنكوبة، ما يقيهم التجنيد الإجباري للمتفرّجين. كبيادق لعبة شطرنج لم يدخلها أحدٌ طائعاً، كما لم يفعل السيد "ب" في رواية "لاعب الشطرنج" للنمساوي ستيفان زفايغ (ترجمة سحر ستالة، دار مسكلياني، تونس، 2017). هي أزمة الإنسان "العادي" الذي يقف عاجزاً أمام الجرائم التي يراها كل يوم في حرب غزّة. فتحتدّ الأمور بين المتضامن في كل لحظة والآخر الذي سكت بعدما غصّ بعجزه عن مشاهدة المزيد، حفاظا على عقله. كأنّ الأمر سيُحدِث فارقاً في نتيجة الحرب.

لهذا كان من السهل تجييش الناس في الحروب قديماً، فالإسراع إلى حمل السّلاح أسهل من العجز، والركض إلى قتل العدو أخفّ على الروح من مقعد المتفرّج الإجباري، حتى لو كان في ذلك حتف المرء. ولا شك أن التجنيد الإجباري من أجل الحروب الوهمية قديماً أخفّ من التجنيد الحالي الإجباري، لمشاهدة حربٍ لا تقلّ بشاعة عن هجمات عصابات الفايكينغ، التي كانوا يحرقون فيها القرى على أهلها.

العجز، هذه الكلمة الأحدّ من السكين، قد يقتل بعض المتفرّجين المعتقلين في ساحات الإعدام. كما فعل مع آخرين في أوقات أخرى، ماتوا قهرا، أو قتلوا أنفسهم بسبب القهر أيضا. كما فعل الشاعر اللبناني خليل حاوي الذي أنهى حياته عندما دخل الجيش الإسرائيلي لبنان عام 1982. لم يستطع تحمّل الحياة بعد الاجتياح، بما عرفته من الوحشية والقتل والاحتلال. وقبله، في عزّ الحرب العالمية الثانية، أنهى الروائي النمساوي ستيفان زفايغ حياته برفقة زوجته، لأنه لم يستطع تحمّل الاقتتال الدموي في حروب أوروبا، ورؤية وحشية الإنسان تجاه أخيه. رغم أنه كان يعيش حياة مرفّهة في البرازيل، التي هرب إليها من أهوال الحرب، لكن الحرب لم تفارقه بعد أن صارت داخله، مع كل التراكم الذي حدَث مند الحرب الأولى.

كان النموذج الأول على تماسّ مع العدو، الذي اقتحم حياته ومدينته وكان سيعيش تلك التجربة بنفسه. أما الثاني فكان بعيدا عن موقع الحرب، لكن أصداءها دمّرته. نحن، الآن، نرى الحرب لحظة بلحظة ونحن بعيدون، فكيف نتحمّلها؟ حتى إذا قاطعنا شاشات الأخبار التي تنزف باستمرار، تطلّ الحرب علينا من كل مكان، من النوافذ والأبواب التي تصلنا بالعالم. ولكل إنسان قدر من الحسّ الإنساني الطبيعي سيتأثر إلى حد المرض أو السخط من عالمٍ زادت بشاعته دفعة واحدة.

في بيوتهم على بعد آلاف الكيلومترات، يعيش مئات الملايين الحرب نفسيّاً، كما يعيشها الغزّيون حتى لو كانوا آمنين في بيوتهم. فهم يعيشون عن بعد عيش المطارد المجوّع والمحروم الذي أباد الإجرام عائلته. لعلها مبالغة في نظر بعضهم، لكن كثيرين يعرفون صحّة الحالة، لأنهم إما يعيشونها أو يعرفون من ترك عمله وحياته، ورابط أمام القنوات مشدود الأعصاب مطحون القلب. يشعر أن مجرّد إشاحته النظر عن الشهداء خيانة لهم، فينظر حتى يبكي.

لا أسوأ من العجز إلا الخذلان الرسمي، لمن ردّد طويلاً عباراتٍ فاخرة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن رفع عقيرته عالياً بالانتماء الديني والجغرافي والثقافي إلى القضية. فانتفى الفارق بين المواطن العربي الذي داس نظامه ضميره، ليطبع مع دولةٍ مجرمة، ولم يحرّك ساكنا من بداية حرب الإبادة، والمواطن الغربي الحرّ الذي ضربت دولته بشعاراتها الحائط، وتضامنت مع المجرم. بل ساندته لمطاردة فئة قليلة مقاومة، بحرق المدينة بيتاً بيتاً.

في رواية "لاعب الشطرنج" يقرر اللّاعب الهاوي والعبقري، بفعل الجهد الهائل، الانسحاب من معركته أمام اللاعب المحترف الغبي، الذي منحته الطبيعة هذا الشقّ الخفيّ من المهارة في جدار بلادته، لأن مواصلته اللعب تعني انحداره للوقوع في الجنون، فظنّ الأبله أنه انهزم لعجزه، وعاد النظام إلى الأشياء، حيث البلداء سادة الشطرنج، والعباقرة لا يعلم بشأنهم أحد إلى أن يظهروا فجأة، وهم أقوى من أي وقت.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج