من تُراه اخترع المدرسة؟
أرى ابنتي الصغيرة منكبّةً على واجباتها المدرسية، عابسةً، متعبةً، مستاءة. لا أذكر أني رأيتُ ولدًا أو بنتا ممن أعرف ولا أعرف، وقد كنّا جميعا تقريبا من هؤلاء، يفعلون وهم متبسّمون أو مرتاحون أو مغتبطون. فما أن ينتهي الدوام المدرسيّ، أو تنتهي الواجبات والفروض، حتى تنفردُ الأجنحةُ من جديد ويعود إليها النبض. من منّا يذكُر كلَّ ما تعلّمه في المدرسة، ومن منّا يعتبر أنه حقّا تعلّم ما دُرّس في الكتب، حين كان صغيرا؟ ثم من قال إن المعرفة مسألة جادّة، قاهرة وغاصِبة، أو إنها قرينة الجمود والصمت والإرغام والرضوخ؟ ولم لا تكون على العكس، كما يليق بها أن تكون، مدعاةً للفرح والابتكار والحرية؟ من؟
ثمّة، في الغرب، من فطن إلى "العذاب" الذي كانت تُنزله النظمُ المدرسية الصارمة بالأطفال، فتحدّث عن "ضررها" وإساءتها إلى مخيّلتهم وفضولهم وحبّهم الاكتشاف. من بين هؤلاء ومن أهمّهم الطبيب البلجيكي أوفيد ديكرولي (1871-1932)، وهو في أساس "منهج القراءة الشامل"، وأحد مؤسّسي علم تربية جديد يجري اعتماده اليوم، بعد نحو مائة عام، في أفضل نظام تعليميّ في العالم على الإطلاق، وهو النظام التربويّ الفنلندي. عام 1901، طُلب إلى ديكرولي أن يصبح المسؤول عن عيادة - مختبر للأطفال، فأبى إلا أن يكون مرضاه من "غير النظاميين" كما سمّاهم، أي الذين يعانون من إعاقةٍ في اللغة أو من أمراضٍ عصبية. لقد فتح العيادة في منزله لكي يتمكّن من مراقبة الأطفال في يومياتهم، وبعد مدة، تحوّلت العيادة معهدا للتعليم الخاص، حيث "يعيش الأولاد بحرية"، ويتعلمون مع أطفاله الثلاثة، بينما يعمل هو مع معاونيه على استنباط مبادئ علم تربويّ بديل، أساسه الاستجابة لاحتياجات الطفل من خلال مقاربته ككل، أي أخذ مقوّماته الجسدية، النفسية والاجتماعية بعين الاعتبار. لقد دعا ديكرولي إلى اعتماد مناهج تعليمية فاعلة تمنح الطفل الدور الأول في تكوين معارفه، وذلك من خلال الاختبار، المعاينة، الأعمال اليدوية والألعاب، وأسّس عام 1907، مدرسة "ليرميتاج" في بروكسل، وشعارها "مدرسة للحياة وعبر الحياة"، وقد بدأت بسبعة طلابٍ ثم نمت وكبرت بسرعة، مستقبلة أعدادا متزايدة من التلاميذ.
ترتكز مبادئ التعليم الخاصة بمنهج ديكرولي على "الاحتياجات المبدئية الأربعة: إيجاد الغذاء، مقاومة تقلّبات الطقس، الاحتماء من المخاطر والأعداء، العمل والتصرّف"، على أن تُشكّل مراكزُ اهتمام الطفل أساسَ التعليم وقاعدة الانطلاق. وبما أنّ الاهتمام هو تعبيرٌ عن حاجة، وبغية تحريض ذكاء الطفل، لا بد من مخاطبة عاطفته واستثارة فضوله: "أن يتعلّم معرفة ذاته ومعرفة الكائنات الحيّة الأخرى، وأن يستكشف البيئة حيث يحيا". الانفتاح على الطبيعة أمر جوهري، لأنها تحوي كل ما يثير حشرية الطفل، ويدعوه إلى التفكير والقول والكتابة. هكذا تغادر المدرسةُ - المحترفُ الصفَّ المغلقَ لتصبح في كل مكان، وتنقلب المعادلة لتصير "من الملموس إلى المجرّد"! حتى دور المعلم يصبح مختلفا، فهو ليس ناقل المعرفة أو مانحها، وإنما المسؤول عن تأطير التجارب، إعطاء النصح والتوجيهات، ومتابعة التجارب التي يجريها أطفالٌ يحقّ لهم أن يجرّبوا ويخطئوا. بمعنى آخر، "قليل من الكلام، كثير من الوقائع". عام 1921، أسّس ديكرولي مع آخرين (بينهم الإيطالية المعروفة بمنهج مونتيسوري الذي يحمل اسمها) "الرابطة الدولية للنظام التربوي الجديد"، وقد ترأسّها فترة قبل أن يُعهد بإدارتها إلى مساعدته أميلي هاماييد التي وضعت كتاب "منهج ديكرولي" (تُرجم إلى 13 لغة)، وسافرت إلى عدة بلدان لكي تدرّب الأساتذة على اعتماده..
لستُ أدري إن كانت طريقة التعليم الجديدة التي تقلب بشكل جذريّ مناهجَ التعليم التقليدية، قد أغرت أيَّ بلد عربي بتطبيقها أو باختيار أن يكون الطفل هو المركز، وليس التلقين المبنيّ على التلقّي السلبيّ والترداد والجمود. لكن، ألا يحقّ لأولادنا أن يجرّبوا أسلوبا آخر في التعلّم حيث تكون المدرسة حرية وخلقا وفرحا وطبيعة؟ هل يكفي أن نقول لإقناع المعنيين والمسؤولين إن الإمساك بزهرة ودراستها في بيئتها واشتمام رحيقها، لأفضل بكثير من رؤيتها في كتاب؟