من أروقة المحاكم الشرعية
ثلاثينيةٌ على قدرٍ من الجمال، ذات مظهر محافظ وقور، مشهود لها بين الزملاء والزميلات بالسمعة الطيبة وحسن الخلق والمثابرة والاجتهاد والطموح. تعرّفت إلى زوجها في أثناء استكمال دراستها العليا في الجامعة. كان مدرّسا حديث التعيين، حاصلا على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعه أميركية عريقة. أُعجِبت بطريقة تفكيره وبحيويته وثقته بنفسه وطريقته غير التقليدية في التدريس التي جعلت الطلاب والطالبات يُقبلون على محاضراته بحماسه. ولطالما أثنى على ذكائها واجتهادها وطموحها، وقد حصلت على شهادة الماجستير بتقدير جيد جدا، ما حفّزها أكثر على السعي إلى شهادة الدكتواره ونيل اللقب الأحب إلى قلبها، تحقيقا لحلمها في مزاولة مهنة التدريس الجامعي. لم تصدّق نفسها عندما عبّر لها عن إعجاب بجمالها وأخلاقها وشغفها الأكاديمي.
بعد فترة تعارف سريعة، لم تتعدّ بضع جلسات بين المحاضرات داخل أسوار الجامعة، تقدّم لخطبتها. وافقت على الفور، وقد حاز العريس الشاب المثقف المهذّب رضا العائلة، وبعد أن تمّت مراسم الزفاف، وانتقل الزوجان السعيدان، بعد عودتهما من شهر العسل إلى بيتهما الجديد، انهمكا في استقبال المهنئين من أفراد العائلتين ومن الأصدقاء. خيّل إليها أنها تعيش أحلى أيام حياتها، وقد تحقّق لها شريك الحياة المثالي مثار حسد الصديقات، يسكنها اليقين بحياة أسرية هادئة سعيدة مستقرّة خالية من الهموم والمتاعب. ظلّت مصمّمة على النجاح في التوفيق بين مسؤولياتها ربّة بيت وامرأة عاملة حال استكمال مسيرتها الأكاديمية والحصول على شهادة الدكتوراه كما اتفقت مع زوجها منذ البداية.
تغيّر ذلك كله، وتبدّد الوهم الوردي الجميل، حين أفصح الدكتور الشاب الدمث، دائم الابتسام بالغ اللطف، عن وجهه الآخر المختلف كليا داخل المنزل، حيث كان يتحوّل إلى شخص متجهم دائم العبوس، شحيح الكلام. أحسّت أنه يعاني من شيزوفرينيا حادّة بشخصيتين متناقضتين، ينزع الشخصية الجذابة حال وصوله إلى باب البيت، ويرتدي الأخرى براحة كبيرة حين يغلق الباب عليهما، فيتبدّى رجلا مختلفا بصفات منفرة مرتابا شكّاكا متملّكا سوداويا مظلما. كما بدأت تلاحظ سلوكياتٍ غريبة غير مبرّرة، مثل استراق السمع إلى مكالماتها والنبش في محتويات خزائنها. وقد ضبطته مرّاتٍ يفتش في هاتفها الجوّال، وصار دائم الانتقاد لملابسها رغم احتشامها.
ليس ذلك فحسب، بل نكث الاتفاق بشأن دراستها "ما فيش عندي نسوان تشتغل"! قالت له باكيةً: لم نتفق على ذلك. .. ردّ وهو يصفع الباب خلفه في طريقه إلى سهرة مع الأصدقاء "هاذا اللي أجاكِ". أُسقط في يدها، بعد أن وسطت الكبار من العائلتين من دون جدوى. ظل يرد عليهم بكل رزانة وبكل هدوء "الله معطي ومفضل، ما فيش داعي لشغلها. خلّيها معزّزة مكرّمة في بيتها، وأنا قادر على القيام بأعباء البيت". حاولت بكل الوسائل ثنيه عن قراره ومعالجة أسباب ارتيابه من دون جدوى، حاولت التحلّي بالصبر حفاظا على زواجها، غير أن الحالة ظلت تسوء.
لم يتبقّ أمامها سوى الإقرار بأنها تعجّلت في اتخاذ قرار الزواج من رجلٍ بالكاد تعرفه بناء على مظاهر زائفة، سرعان ما بدّدتها الحياة اليومية. وها هي قد عادت إلى مقعدها الجامعي بعد أن حصلت على الطلاق إنقاذا لنفسها من حياةٍ مريرةٍ مبنيةٍ على وعودٍ كاذبةٍ بصحبة رجل مريض نفسيا. ولأنها تنتمي إلى أسرة واعية، تكنّ احتراما للمرأة، وتقرّ بحقها في تقرير المصير، فقد حظيت بالدعم المعنوي والمادي، لتمضي بحياتها وتحقّق أحلامها سيدة حرّة كريمة عزيزة، وقد تعلّمت الدرس الأكثر قسوة!