لقاء الغرباء
حين شاهدَته في المقهى الهادئ بعد غيابٍ 20 سنة على أقل تقدير، هرعتْ إليه وسط صدمته، صافحتْه بحرارة وسلّمتْ على الشابة التي تجلس في جواره. أبدى سعادته بالمصادفة الجميلة، انخرطا في حديث خفيف وأسئلة لا تخلو من مجاملة عن الصحّة والحال، ثمّ استأذنتْ وعادتْ إلى طاولتها مع الصديقات من نادي الكتاب، حيث يجتمعن كلّ شهرٍ لمناقشة كتاب من اختيار إحداهن.
تذكّرت المرأة على الفور أغنية "الأطلال" لأمّ كلثوم (كلمات إبراهيم ناجي)، تحديداً المقطع الأخير منها: "ربّما تجمعنا أقدارنا ذات/ يوم بعدما عزّ اللقاء/ فإذا أنكر خلُّ خلَّه/ وتلاقينا لقاء الغرباء/ ومضى كلّ إلى غايته/ لا تقل شئنا/ فإنّ الحظّ شاء". حاولتْ في البدء تناسي وجوده، وانهمكت في الحديث مع صديقاتها، سألتَهن من دون مناسبة قائلة، بلهجة جادَّة: "هل تعرفن أنّ أمّ كلثوم غيّرت كلمة في قصيدة إبراهيم ناجي؟ وطبعاً وافقها الشاعر الكبير من دون نقاش، فهي الستّ والكوكب الذي يهاب الجميع بريقه". لم تستغرب الصديقات عبارتها لأنّهن اعتدن غرابة أطوارها، وسرعان ما خضن في حديث عن إرث أمّ كلثوم، الذي لا يفهمه هذا الجيل المأخوذ بالأغاني التافهة ذات الإيقاع السريع والكلمات الرقيعة.
تنفَّست الصعداء، إذ لم تلحظ أيّ منهن اضطرابها وتسارع ضربات قلبها وهي على بعد عدّة خطواتٍ من حُبّها الأوّل، الذي ضاع منها لأسباب لم تعد تذكرها. لعلَّها تتذكَّر بعضها، غير أنّها تفضلّ عدم الخوض فيها. حانت منها التفاتة إلى المرأة الجالسة في قربه، بدت شابَّة صغيرة السنّ باهرة الجمال. وجه جميل، ملامح دقيقة، وشعر مفرود يغطّي كتفيها، وضحكة ساحرة أشعلت نار الغيرة في قلبها.
استرقت نظرة إليه. كانت مظاهر الشيخوخة قد غزت ملامحه، فظهر الشيب على فودَيه، وغزت التجاعيد وجهه، لكنّه ما زال وسيماً. كان يهمس لرفيقته ويضحكان ما أثار غيظها، وأفقدها التركيز ومتابعة النقاش بين الصديقات، الذي احتدم حول الكتاب الذي لم يرق لها، وكانت قد حضَّرت كثيراً لتقوله، لكنّها التزمت الصمت وتظاهرت بالإصغاء، رغم أنّ كلّ حواسّها كانت متَّجهة إلى الطاولة المقابلة، حيث حبيب الصبا الذي ضاع.
أخرجت خلسة مرآة صغيرة من حقيبتها، تأمَّلت في وجهها الخمسيني المُتعَب، ولاحظت أنّ بعض خصلات شعرها ليست مصبوغة. ندمت لأنّها لم تعتنِ بنفسها أكثر، فكَّرت بأنّه سوف يحمد الله أنّهما افترقا قبل أن تنال منها الكهولة، وتحيلها من صبيّة فاتنة مفعمة بالحياة، شديدة الغيرة على الحبيب إلى درجة التملّك، إلى عجوز مثيرة للشفقة. اعترفت لنفسها بأنّها تتحمّل مسؤولية فشل العلاقة بسبب عصبيتها وتسلّطها وتدخّلها في تفاصيله كافّة، ما جعله يشعر بالاختناق والرغبة في الهرب، رغم الحُبّ الكبير الذي جمع بينهما ذات صبا حين توقّع الجميع أن تتوَّج قصَّتهما بالزواج، غير أنّ ذلك لم يحدث، وافترقا نهائياً، ليأتيها بعد أشهر نبأ زواجه، وسفره مع زوجته إلى الخليج. توقَّفت عن متابعة أخباره، ولم يخطر لها، من باب الفضول، مُستجدَّات حياته، لأن ذلك مؤلم. عزفت عن الزواج واختارت أن تظلّ عزباء ما لم يطرق الحُبُّ قلبها من جديد.
تساءلت بغضب كم كان عمر امرأته حين تزوَّجا؟... تبدو صغيرة السنّ. لعلّها مثل المطربة أصالة خضعت لكثير من عمليات التجميل كي تبدو شابَّة فتية. تنبَّهتْ إلى أنّه نادى النادل وسدّد الحساب، وقبل أن يخرج توجّه نحوها بصحبة المرأة الجميلة. نهضت وهي تحاول أن تُداري اضطرابها. قال مبتسماً: "نسيت أن أعرّفك إلى ابنتي. إنّها في سنتها الجامعية الأولى، وهي تشبه المرحومة والدتها".