من أجل سردية حقوقيّة لغزّة

28 نوفمبر 2023
+ الخط -

في الحملة العاتية لإسكات الأصوات المتضامنة مع فلسطين في الحرب على غزّة، بات استخدام الكلمات مجازفة. التعبير الأمثل عن القيود الجديدة على مساحات التعبير التي ضاقت، بشكل غير مسبوق في الأسابيع الأخيرة، الحملة الشرسة على المسيرة الشعبية الكبيرة التي تنظم كل نهاية أسبوع في لندن، والتي باتت تستقطب مئات آلاف من المشاركين المطالبين بوقف حرب الإبادة ضد غزّة. قادت الحملة وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان، التي جرى خلعها بعدما اتهمت شرطة لندن بالتحيز في التعاطي مع ما وصفتها بتظاهرة الحقد، ما منح الحملة غطاء رسميا إلى حدٍّ كبير. عملية التخويف من المسيرة الشعبية التي طالما أكدت الشرطة أن غالبيتها العظمى سلمية، ولم ترفع، في الغالب، أيّ شعاراتٍ مؤيدة لحركة حماس أو معادية للسامية، بلغت حد القول إن عائلاتٍ باتت تخشى الخروج إلى الشارع خوفا من التعرّض لاعتداءات، رغم أن الاعتداءات الأساسية التي شهدتها التظاهرة جاءت، بحسب الشرطة، من التظاهرة المضادّة لليمين المتطرّف، والتي هاجم أعضاؤها الشرطة. الخلط بين تأييد غزّة عبر الضغط من أجل وقف إطلاق نار وتأييد حماس فعل فعلة كاتم صوت، وإن لم يمنع مئات الآلاف من الخروج إلى الشارع. نجحت استعادة فزّاعة معاداة السامية أو تأييد الجهاد الإسلامي، رغم الطابع الحقوقي والإنساني للأصوات المرتفعة ضد الإبادة الجارية في غزّة، في تكميم الأفواه إلى حد كبير، رغم ردّ الفعل المقاوم للضغوط، بما في ذلك في أوساط اليهود الناقدين للبطش الإسرائيلي.

نجح الحصار على الأصوات الخارجة عن السردية المجمع عليها في إحداث إرباك في التعبير مع الربط الناجح في الدعاية الإسرائيلية بين "حماس" وتنظيم داعش

 يجسّد الجدل بشأن التظاهرة عملية الشيطنة المتواصلة للأصوات التي تُناقض السردية الإسرائيلية حول "حقّ الدفاع عن النفس" في تبرير العنف غير المسبوق ضد الفلسطينيين في غزّة وغيرها، عبر لصق وصم معاداة السامية أو تأييد الجهاد الاسلامي بالمتمرّدين على هذه السردية. لا تطاول الحملة منظمات فحسب، إنما أشخاصا بعينهم، أصحاب مواقع وأصوات عالية في الإعلام أو الأوساط الجامعية أو السياسات في مؤسّسات غربية. تعرّض بعضهم للتأنيب، أو الوقف عن العمل أو الصرف، في حين وجّهت مؤسّساتٌ تعميماتٍ لموظفيها بشأن ما يجب وما لا يجب قوله عن القتل الدائر بما في ذلك ضرورة الالتزام بالتعريف الرسمي لمعاداة السامية الذي يخلط بين انتقاد إسرائيل ومعاداة اليهود. وتلقّى آخرون تعليماتٍ بعدم المشاركة في برامج حوارية أو مواقع إعلامية حول القضية والتزام الصمت تعبيرا عن الحياد. 
نقل تقرير لـ"ميدل ايست آي" عن رئيس لجنة الحرّيات في الجمعية البريطانية للدراسات الشرق أوسطية (بريزمس)، البروفسور نيف غوردن، قوله عن أجواء من الخوف في صروح الجامعات البريطانية، حيث تمارس رقابة بوليسية على استخدام الطاقم التعليمي والتلامذة وسائط التواصل الاجتماعي، بما في ذلك إحالة بعضهم إلى مجالس تأديب وتبليغات للشرطة في بعض الحالات. بحسب التقرير، تطاول عمليات قمع عديدة أكاديميات من أصول عرقية، يعملن في جامعات بريطانية، بحسب المركز الأوروبي للدعم القانوني. وتشهد حملة القمع نفسها على الأصوات الخارجة عن "المقبول" الأوساط الاكاديمية الفرنسية، إذ جاء موقع "ميديابارت" على استهداف للأكاديميين الباحثين في الدراسات الشرق أوسطية بشكل خاص. نجح الحصار على الأصوات الخارجة عن السردية المجمع عليها في إحداث إرباك في التعبير مع الربط الناجح في الدعاية الإسرائيلية بين "حماس" وتنظيم داعش، ما أفاق الخوف الدفين من الإسلاميين، وحوّل السردية من تعقيدات القضية الفلسطينية وواقع غزّة إلى تبسيطات الحرب ضد الإرهاب، وما تستتبعه من نزع المشروعية عن ضحايا آلة الحرب الإسرائيلية، وتبرير قتلهم بضرورة حماية الأمن العالمي من الإرهاب.

تقود الحملة المضادّة أصواتٌ يهودية شجاعة، رفضت عاليا القتل باسمها، وعملت على تفكيك السردية الإسرائيلية

المهم أن الأصوات الخارجة عن سردية الإجماع الإعلامي والسياسي لم تتوقف عن التعبير، حتى في المرحلة الأولى من النزاع، عبر التذكير بخلفيات النزاع والوضع الخاص لغزّة والاستيطان غير القانوني. ارتفعت الأصوات بشكل ملحوظ في الأسابيع الأخيرة، وبلغت أوساطا كانت تعتبر، إلى حد كبير، منسجمة مع سردية "الدفاع عن النفس"، منها صحيفة نيويورك تايمز التي وصفت القتل الإسرائيلي للمدنيين في غزّة بأنه يحصل "في وتيرة تاريخية" في عنوانها الرئيسي. تقود الحملة المضادّة أصواتٌ يهودية شجاعة، رفضت عاليا القتل باسمها، وعملت على تفكيك السردية الإسرائيلية. من أبرزها مقالة نشرتها "ذا نيويورك ريفيو"، يقول فيها أكاديميون بارزون في دراسات الهولوكوست ومعاداة السامية إن استخدام ذاكرة المحرقة وربطها بأحداث غزّة هو إساءة للذاكرة الجماعية لليهود. شدّدت المقالة على أن السردية الإسرائيلية التي وصفت الفلسطينيين بالنازيين الجدد تمحي الربط بين ما حدث في 7 أكتوبر/ تشرين الأول والوضع الخاص لغزّة (75 عاماً من النزوح، 56 عاماً من الاحتلال، 16 عاماً من حصار غزّة). يقول موقّعو المقالة - الرسالة: "لا يوجد حل عسكري لإسرائيل – فلسطين، واستخدام سردية هولوكوست التي تفترض (شيطاناً) يجب القضاء عليه بالقوة لا ينجح إلا في تخليد حالة اضطهاد دامت طويلا". صوت آخر رفعه عالياً أستاذ العلوم السياسية والناشط الأميركي نورمان فينكلستين، الذي قال في حوار مع الإعلامي البريطاني، بيرس مورغن، إنه لا يستطيع أن يلوم شباب "حماس"، لأنهم ولدوا في الاحتلال، وحوالي 70% منهم لا يملك عملا ولا مستقبلا: "لم يحصلوا على أي فرصة". يضيف أنه أيضاً تخلّى عن نشاطه من أجل غزّة، لأنه شعر بأن القضية باتت ميؤوساً منها. 
... لن تتوقّف معركة السرديات، ومعها محاولات التخويف والاستهداف الشخصي للأصوات العالية. المهم أن لا يتوقّف تضامن هذه الأصوات في نصرة سردية حقوقية لا بدّ منها.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.