من "أبسكام" إلى البرلمان الأوروبي
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
لا يوجد تفسير أكثر منطقية من نظرية المؤامرة. فبعد أن نجحت قطر في تنظيم أفضل مونديال في تاريخ كأس العالم، يُتعب من بعدها، وفي ظل الحاجة الأوروبية الماسّة للغاز القطري، في ظل الحرب الأوكرانية الروسية، تُتّهَم قطر بتقديم رشوة إلى نائب رئيس البرلمان الأوروبي، اليونانية إيفا كايلي، لتحسين التقارير الخاصة بالعمّال في قطر!
كان يمكن أن تكون التهمة منطقية قبل تنظيم البطولة، بعد النجاح في تنظيمها، وسواء أكانت التقارير إيجابية أم سلبية، لا قيمة لها. وفي النهاية، لم تزعم قطر أنّ معايير حقوق العمّال لديها ترتقي إلى المعايير الأوروبية، ولا يمكن نائباً من بين أكثر من 700 نائب تغيير نتيجة التصويت في أي قضية.
تنفي قطر علاقتها بالقضية جملةً وتفصيلاً، ويتمسّك محامي النائب ببراءتها، والقضية برمتها منظورة أمام القضاء، ولا يمكن استباق الحكم. ولم تشغل القصة مليارات البشر عن متابعة النهائيات بقدر ما عكّرت، لدى المسيّسين والمتخصّصين، صفو الاحتفالية بشكل يتطلب من قطر تشغيل ماكنة العلاقات العامة وإدارة السمعة بعد المونديال، فقطر ليست أول دولة تواجه مثل هذه التهم.
تُقرأ القضية، بمعزل عن شقّها القانوني، في سياق حملة استشراقية استعلائية غربية على قطر، وتآمر معدّ على قطر، لأسباب لها علاقة بالحسد والبغضاء أكثر من أي شيء آخر أنفق فيه الملايين حاول بكل الوسائل إفشال استضافة المونديال، وفي الحد الأدنى التقليل من نجاحه، وهذا لا ينفي أن تكون القضية خطأً من مسؤول أو من شركات العلاقات العامة والمحاماة واللوبي.
نجاح غير مسبوق للعرب والمسلمين منذ أحداث "11 سبتمبر" في تقديم العرب والمسلمين في أبهى الصور وأجملها
في الصورة الكبيرة، ثمّة نجاح غير مسبوق للعرب والمسلمين منذ أحداث "11 سبتمبر" في تقديم العرب والمسلمين في أبهى الصور وأجملها، فالعربي والمسلم ليس قاتلاً ولا مفجّراً ولا خاطفاً، هو مرحِّب ومحتفٍ بالآخر على اختلاف الثقافة والعرق والدين. صورة لم تصحّح التشويه الذي حصل في العقدين الأخيرين، بل تجاوزتها إلى صورةٍ هي الأجمل في القرن الأخير. مَن حضروا إلى الدوحة بأشخاصهم نقلوا صورة إلى مليارات البشر عبر منصّات التواصل، وخصوصاً منصّتي الشبيبة؛ التيك توك وأنستغرام، لبلد هو الأكثر أماناً وجمالاً وتنظيماً وترحيباً. فضلاً عن بثّ المباريات التلفزيوني بكل اللغات. للمرة الأولى منذ 1990 يظهر العرب موحَّدين خلف راية الفريق السعودي ثم التونسي فالمغربي، وراية فلسطين الغائبة الحاضرة، إلى درجة وصفت فيه "فايننشال تايمز" المونديال بأنه "مصدر للوحدة العربية"، وهو ما وافقها فيه الإعلامان، الغربي والإسرائيلي.
لم يكن مقبولاً عند كل مَن يعادي العرب والمسلمين هذا النجاح. ومن هنا لا بد من تدبير يفسد الصورة ويعيد تقديم الصورة النمطية للعرب والمسلمين، وهو ما يذكّر بالقضية التي عرفت باسم أبسكام في أميركا عام 1980، والتي تنكّر فيها عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي بهيئة شيوخ خليجيين لتقديم رشوة لأعضاء في الكونغرس. أيامها احتجّت المنظمات العربية على تلك العملية "الوهمية" للإيقاع بالمتهمين. وبعد أربعة عقود، نجد القضية تتكرّر في البرلمان الأوروبي. وقد كتب شاحر كلايمن في صحيفة إسرائيل اليوم، بعد قضية البرلمان الأوروبي: "قطر تخسر في أوروبا، لكنها تنتصر في العالم العربي". والواقع أنها خسرت جزءاً من أوروبا، والغرب عموماً، قبل ذلك وبعده، وكسبت الكثير فيهما، وهذا ما يُزعج الإسرائيليين. فقطر ليست أول ولا آخر دولة تواجه تهماً كهذه، والحاجة الأوروبية لها لا تتوقف عند عيون عشرات الملايين الذين يتابعون المونديال، بل تتجاوز ذلك إلى حاجة أوروبا للغاز القطري، وخصوصاً في هذا الشتاء. ولذا، لم يكن مستغرباً أنّ ألمانيا أكثر دولة جنّدت ضد قطر، هي أول دولة أوروبية وقّعت اتفاقية غاز معها في غضون المونديال، وبعد تسلل وزيرة داخليتها بشارة المثليين إلى مدرجات استاد خليفة في أثناء مباراة بلدها مع اليابان.
ما تمثله قطر في المونديال أكبر من شحنات غاز مُسال، مثلّت أمة العرب بكل ثقلها الحضاري والثقافي ومصالحها الاقتصادية، وهو أكبر من قضية رشوة، واقعاً كانت أو مؤامرة.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.