منتجعات على مدّ النظر ليست للسوريين

13 يوليو 2022

سوريون على شاطئ البحر في اللاذقية (14/6/2018/فرانس برس)

+ الخط -

خبران نُشرا في قسم "شؤون محلية" في صحيفة الوطن السورية، في اليوم نفسه، الخميس السابع من يوليو/ تموز الجاري. يقول الأول إنه جرى توقيع عقد استثمار موقع جول جمال في محافظة اللاذقية بين مجلس مدينة اللاذقية وشركة "سينار إنت" بحضور وزير السياحة ومعاونيه والملحق الاقتصادي في السفارة الروسية في دمشق. ويهدف المشروع الذي صدق عليه وزير السياحة إلى تشييد مجمع سياحي من الدرجة الممتازة (4 نجوم) على مساحة 70 ألف م2 تقريباً. ويتضمن المشروع إقامة فندق وشاليهات وشقق فندقية ومراكز للمعالجة الفيزيائية والصحية وفعاليات ترفيهية متممة بصيغة استثمار bot ومدة استثمار 45 عاماً ومدة تنفيذ ست سنوات. وقال وزير السياحة إن عائدات الاستثمار كاملة لمجلس مدينة اللاذقية، بهدف دعمه، والتي حددت بـ 11% من كامل إيرادات المشروع. كما قال مدير المشروع ديميري أوبارين إن هذا المشروع سيساهم في زيادة القدوم السياحي الروسي إلى "البلد الصديق" سورية، آملاً تطوير أفق التعاون وتشجيع السياحة الروسية إلى سورية، معتبراً أن توقيع عقد المشروع هو تطوير للعمل السياحي والمساهمة في إعادة الإعمار في سورية بعد الحرب الجائرة.

يعيد هذا الخبر، وتصريح مدير المشروع إلى الأذهان مطعم "ناش كراش"، أوائل الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) في دمشق، وقيل إن ملكيته تعود إلى المستشارة الإعلامية للرئاسة السورية، لونا الشبل، بهويته الروسية انطلاقًا من اسمه، إلى الطبّاخين والقائمين عليه فنيًا، إلى فضائه الخاص، فأماكن ترفيهية مثل هذه الأماكن لا تُنشأ من أجل المواطن السوري، خصوصا العادي الذي صار يشكل ما يفوق 90% من الشعب، وإنما لأجل الأفراد الروس، الموجودين لضرورة الوجود الروسي العسكري والسياسي في سورية حاليًا، ثم لأجل الأفراد الروس بالمجمل مستقبلًا، كما قال مدير المشروع: "سيساهم في زيادة القدوم السياحي الروسي إلى البلد الصديق سورية". وبالتالي، للمواطن الروسي أن يحلم بقضاء إجازته السنوية في منتجعات تليق به، في بلاد الشمس والمناخ الجميل والبيئة المنوعة الغنية، بأقلّ التكاليف بالنسبة إليه، وسيكون المواطن السوري المفقر، المعدم، فاقد الحلم والطموح إلّا بقوت يومه ليبقى حيًّا، يكون عاملًا في قطاع الخدمة من أجل رفاه أولئك القادمين من البلاد التي استباحت بلده بطلب من حكومته.

الخبر الثاني بعنوان "المسابح الخاصة مقصد العائلات الحموية الفقيرة للاصطياف بالعطل والأعياد". ويفيد بأن هناك إعلانات على مواقع التواصل عن تأجير المسابح الخاصة والواقعة ضمن فيلات أو مزارع بمختلف مناطق محافظة حماة خلال فترة العيد، بأجور مغريةٍ بهدف استقطاب زبائن للحجز المسبق. وبيَّن مواطنون أن المسابح الخاصة أصبحت مقصداً لهم خلال عطلة نهاية الأسبوع، أو العيد، لكونها أقرب وأرخص من التوجّه إلى الساحل وحجز شاليهات إن وجدت، أو غرف في الفنادق الشعبية أو غير الشعبية. وهي تسدّد جماعياً "والحمل عالجماعة خفيف" يقول أحدهم. ولفت آخرون إلى أن عدة عائلات من الأقرباء أو الأصدقاء يمكنهم الاشتراك باستئجار مسبح، فهم غير قادرين على قضاء العطلة الأسبوعية أو الإجازات أو عطلة العيد في الساحل السوري.

صار دخول المسابح والمنتجعات، المتبقية منها، أو التي أنشئت حديثًا، كالشاطئ الأزرق وغولدن بيتش وروتانا وغيرها، حلمًا مستحيلًا على السوري

ولمن لا يعرف اللاذقية قبل عقود أربعة، عندما بدأ التغيير والتطاول على هويتها التاريخية متكئًا على الفساد الذي كان قد بدأ يتغوّل في مناحي الحياة، فإن مسبح جول جمال كان ضمن المنطقة السياحية مع غيره من المسابح، وقد كانت تلك المسابح قبلة سكان اللاذقية وسكان بقية المحافظات السورية لتمضية إجازاتهم على البحر، بحر سورية الذي كان منذ القدم لكل أبنائها. كان أهل الداخل يحزمون حقائبهم ويأتون، بعد استئجارهم أحد الشاليهات التابعة للمسابح، من أفاميا إلى جول جمال إلى فلوريدا، إلى الشاطئ الأزرق إلى الميريديان، وغيرها. وكان سكان اللاذقية في غالبيتهم يستطيعون دخول هذه المسابح الشاطئية برسم دخول يستطيع معظم الناس دفعه لقاء الخدمات التي تقدّمها إدارة تلك المسابح، يمضون نهارًا على الشاطئ، ويعودون إلى بيوتهم. كما كان هناك مسابح ومطاعم على الكورنيش الغربي، تمنح اللاذقية هويتها التي تتشابه فيها مع باقي مدن المتوسط، هويتها التاريخية التي طاولتها أيدي الفساد الجبارة، فهدمتها وبلّطت بحرها، قضت على مسابحها ومطاعمها ومقاهيها، وحُرم الناس من أجمل رئة لمدينتهم.

صار دخول المسابح والمنتجعات، المتبقية منها، أو التي أنشئت حديثًا، كالشاطئ الأزرق وغولدن بيتش وروتانا وغيرها، حلمًا مستحيلًا على السوري بسبب ارتفاع رسومها، إلى ما يفوق راتب ثلاثة أشهر للجامعي، لقضاء ليلة واحدة، إلّا أولئك الطغمة القليلة التي تحتكر ما بقي من اقتصاد البلاد، أو التي أثرت من الحرب وعلى حساب أرواح الناس، وصار أبناء المحافظات السورية الأخرى يبحثون عن بدائل بسيطة، لكنها تبدو مثل حلم خاطف من الممكن اقتناصه لساعات يسعدون أطفالهم به.

الأجيال تكبر على ثقافةٍ بلا هوية، لذلك من السهل غزو أفكارها، وإحلال ثقافة محلّ ثقافتها المأزومة

ربما من الصعب استجلاء ملامح الثقافة المجتمعية السورية في هذه الفترة، بعد عقد من الحرب والدمار الذي لحق منظومات الحياة كلها، وقبلها عقود من القمع وتعطّل المشاركة في صياغة الحياة بسبب أنظمة شمولية مستبدّة متحالفة فيما بينها، سياسية واجتماعية ودينية. كذلك لا يمكن فهم المضمون الفكري لهذه الثقافة، باعتبار أن النشاط الفكري الإبداعي والإنتاج المادي للمجتمع يعاني من التشظّي والتراجع والشلل، بسبب ما وصلت إليه حياة الناس من انحدار مريع، وأدّى إلى جعل القيم والعادات وأنماط السلوك في حالة اضطراب وتغيّر مستمرّين، من دون تخطيط أو إبداع، إنما بدافع البقاء ليس أكثر. ولكن حتى في هذه الظروف غير اللائقة بعيش الإنسان، إذ دائمًا ما يبقى لديهم، في نقطة عميقة من نفوسهم، جنوح نحو تلوين حياتهم، ولو بالحد الأدنى، بل حتى بالوهم أحيانًا، وبشكل خاص فيما يتعلّق بتأمين ألوان من الفرح لأطفالهم، لو كانت أفراحًا صغيرة، وهذه الأفراح، والأحلام، صارت، بحد ذاتها، تشبه السراب.

الأجيال الحالية كبرت وتكبر في ظل هذه الظروف التي لا يمكن وصفها، فشخصية الفرد تتطوّر وتنمو في الإطار الاجتماعي الذي تنشأ فيه، وتشكّل أنماطها السلوكية من خلال هذه البيئة. وهذا لا يعتمد على المورثات أو المعطيات البيولوجية، إنما على طرق العيش والمعايشة والاستيعاب والتنشئة الاجتماعية، فإذا كانت المجتمعات تعاني من أزماتٍ متلاحقة ومتزامنة تؤدّي إلى انهيارها السريع، فإن الأجيال تكبر على ثقافةٍ بلا هوية. لذلك من السهل غزو أفكارها، وإحلال ثقافة محلّ ثقافتها المأزومة، سوف تؤدّي، في النتيجة، إلى شخصيات مأزومة أيضًا، خصوصًا عندما تكون "العين بصيرة واليد قصيرة" كما يقول المثل.

الشعب السوري المشتت صارت بلاده المقسّمة في الواقع "منتجعات عا مدّ النظر"، لراحة واستجمام من أوصلوها إلى "النصر" على ركام من الدمار

هل هذا هو حلم إعادة الإعمار المنتظر؟ هناك مئات آلاف من السوريين بلا مأوى، بعدما هجّرتهم الحرب من بيوتهم وقراهم ومدنهم، هناك مئات الآلاف من اللاجئين يعيشون الذل والمهانة والحرمان من كل شيء في بلدان اللجوء المجاورة، في مخيماتٍ بائسة، يلعب بهم السياسيون كورقة في بازاراتهم. هناك الملايين من السوريين الفقراء المحرومين، وهذه أولى القضايا والأولويات، ثم يقول مدير المشروع المذكور: إن توقيع عقد المشروع هو تطوير للعمل السياحي والمساهمة في إعادة الإعمار في سورية بعد الحرب الجائرة.

لم يعد أي مراقب يحتاج إلى دليل أو برهان على أن الشعب السوري أصبح يتيمًا منذ الشهور الأولى لانتفاضته، كل من ادّعى صداقته ساهم في تعطيل حياته وخراب بلاده، ابتداء من نظامه الذي، بعد أن كتم على أنفاسه عقودا، أصابه بمقتل عندما صرخ لكرامته، إلى كل الأطراف التي ادّعت تمثيلها إرادته وطموحاته، فتاجرت بقضيته، إلى الدول التي أدارت نزاعاتها فوق أرضه وبمقاتلين من خيرة شبابها، إلى القوى الإقليمية والدولية التي لم تكن جادّة بما يكفي لدعم الشعب ومساعدته في صنع مصيره، فكيف والعالم اليوم يمرّ بأقسى أزماته؟

الشعب السوري المشتت في الداخل والخارج صارت بلاده المقسّمة في الواقع "منتجعات عا مدّ النظر"، لراحة واستجمام من أوصلوها إلى "النصر" على ركام من الدمار والجماجم، يحقّ لهم أن يستريحوا وينعموا برفاهية شمس سورية وبحرها ورمالها وطبيعتها، وأن يكون السوريون في خدمتهم، طموحا أقصى لهم.