منارة السرّاجي: هدم الذاكرة الحضارية
أشرف محافظ البصرة بنفسه، الأسبوع الماضي، على عمليات تهديم معلم أثري قديم في مدينة البصرة، منارة جامع السرّاجي، التي يعود عمر بنائها، حسب بعض التقديرات، إلى 300 سنة، وقد جدّد الجامع أكثر من مرّة، في مطلع القرن العشرين، وآخر مرّة كانت في عهد النظام السابق في 2002.
أثار التهديم ضجّة على مواقع التواصل الاجتماعي في العراق، وهي ضجّة متعلّقة بالمنارة الأثرية، وليس بالجامع الملحقة به، وذهب المعلّقون في عدّة اتجاهات، فمنهم من علّق على الموضوع فقهياً ودينياً، ومنهم من تناول الحدَث طائفياً، فالجامع سنّي، والذي أمر بتهديمه محافظ ينتمي إلى كيانات سياسية شيعية. ومنهم من ركّز على الجانب الآثاري من الموضوع.
تتداخل، في واقع الحال، كل هذه الخطوط في هذه القضية الحسّاسة، التي ليس لها من مبرّر سوى الكسب الدعائي والسياسي. ومن الواضح أن المحافظ، الذي كان يبتسم في الصور المعروضة عن حدث التهديم، كان واعياً لما يقوم به، ويعرف أنه سينجو من هذه الفعلة، وأنه مدعوم من الأحزاب الحاكمة، ولن يتعرّض لمساءلة جديّة بشأن المشروعية القانونية والأخلاقية لعمل شنيع من هذا النوع.
ربما كان سبب استرخاء المحافظ أنه كان يوجّه رسالة سياسية طائفية إلى جزء من الجمهور العام، الذي يأمل بدعمه في انتخابات مجالس المحافظات. وعلى الطرف المضادّ، هناك جمهور آخر تلقّى الأمر أنه رسالة طائفة ضدّه. ولن يهدئ هذا الجمهور أن الوقف السنّي في البصرة مؤيّد للهدم، لصالح بناء جامع بالاسم نفسه في مكان آخر. وفي الحقيقة، لو أن الأمر كان مجرّد هدم مسجد لتوسيع الشارع العام، وإعادة بنائه في مكان بديل، لما كان الموضوع بهذا التأثير. ولا توضّح القراءة الطائفية من كلا الفريقين الحقيقة، ولا خطورة ما جرى، فالمسألة تتعلق بأثر قديم، ينتمي إلى التراث الحضاري والثقافي العراقي، وليس لطائفة أو جماعة محدّدة، ويجب أن يُنظر الى ما أرتكبه المحافظ من هذه الزاوية تحديداً.
كان ردّ وزارة الثقافة العراقية، التي يرأسها وزيرٌ سنّي حسب المحاصصة الطائفية السائدة، بارداً، ولا يرتقي إلى مستوى الحدث، وخصوصاً أن قضية منارة السرّاجي لم تنبثق اليوم، وإنما أثيرت قبل بضعة أشهر، وصار بشأنها جدل واسع في مواقع التواصل ووسائل الإعلام، بسبب شائعات عن نيّة محافظ البصرة تهديمها.
كان على وزارة الثقافة، وهي المعنيّة بالحفاظ على الآثار والمعالم التاريخية، أن تتخذّ موقفاً أكثر جرأة وصلابة من يومها، لا أن تردّ ببيانٍ ناقدٍ بعد هدم المنارة!
كان من الأجدى، لو أن المحافظ لم يكن يبحث عن موضوعٍ دعائي ذي حساسيةٍ طائفية، أن يعمد، من وقت مبكّر، من سنواتٍ ربما، الى حلّ تقني فنّي ينقذ المعلم التراثي، ويحقّق المصلحة بتوسيع الشارع الضيق الذي يعيق حركة السيارات، بأن يتم تقطيع المنارة ويُعاد تركيبها في مكان آخر، ربما في مكان بناء جامع السرّاجي الجديد.
يقف الاستثمار السياسي خلف كوارث كثيرة حدثت في العراق في العقدين الماضيين، تبدأ باستثمار الدم وعدد الضحايا، ولا تنتهي باستثمار المشاريع الدينية للتحريض على الأفراد أو على المعالم الأثرية والتاريخية. ولعلّ متابعين عراقيين كثيرين يعرفون ما جرى في إبريل/ نيسان الماضي مع قرار الوقف الشيعي في النجف هدم سوق الحويش التاريخي من أجل أعمال توسعة في الضريح العلوي، وكانت ردود الفعل من مثقفي النجف والعراق عموماً قوية، بسبب عدم الاكتراث بالمعالم التاريخية التي تمثّل ذاكرة المدن والبلد بشكل عام.
بجانب الاستثمار السياسي، يأتي الإهمال والتفكير بالأرباح ليزيح بالتدريج معالم أثرية وتاريخية في البلد، وهذا يبدأ من الموصل التي شهدت كوارث خلال العمليات العسكرية، أشهرها تهديم منارة الحدباء، ولا ينتهي في أحياء البصرة القديمة جنوباً، ولبغداد حصّة كبيرة من أعمال التخريب هذه، فحتى وقت قريب كان هناك حوالي 200 مبنى يصنّف أثرياً، لكن المتبقي منه ربما يقارب نصف العدد، بسبب الشراهة لبناء مصالح تجارية على ركام البنايات الأثرية التي تُهدم، احتيالاً، بطرق شتى.
الحكومة العراقية مطالبةٌ بموقفٍ حازم إزاء هذا العبث بالذاكرة الحضارية للبلد، وبأن تضع قوانين صارمة تمنع استمرار عمليات الهدم العشوائية، وأن تقدّم البدائل لأي مشكلةٍ يمكن أن تعترض عمليات التنمية والتوسعة.