ملاحظات على الاحتجاجات في فرنسا

21 يناير 2023
+ الخط -

فرنسا على موعد مع مرحلة من الاضطرابات على الشاكلة التي شهدناها في مرحلة احتجاجات ذوي السترات الصفراء، جرّاء التعديل الذي تزمع الحكومة الفرنسية إدخاله على سن التقاعد من 62 عاما إلى 64 عاماً. الحقّ أن الرئيس ماكرون كان قد وعد، منذ انتخابات 2017، بتعديل سن التقاعد إلى 65 عاماً، ولكن، أمام الرفض الذي يبديه الشارع وتبديه أحزاب المعارضة وتكشفه استطلاعات الرأي، تراجعت الحكومة سنة واحدة في سن التقاعد المقترح، كما أبطأت وتيرة التطبيق. مع ذلك لم يهدأ الرفض، وتم تحديد 19 يناير/ كانون الثاني ليكون يوم البدء بإضرابات واسعة تشمل كل القطاعات (النقل، الطاقة، التعليم، الصحة، الثقافة، البنوك)، بعد أن توافقت على الحركة كل الهيئات النقابية، وهي حالة غير شائعة.

كان قانون التقاعد أحد المحاور الأساسية للصراع في فرنسا، منذ أن أعاد الرئيس الأسبق، فرانسوا ميتران، سن التقاعد من 65 عاما إلى 60 عاماً في 1983، الشيء الذي لم تكفّ الحكومات اللاحقة عن اعتباره السبب في العجز في الموازنة، ولم تكفّ عن العمل على تعديل قانون التقاعد الذي يقوم على فكرة التشارك، بحيث يؤخذ ممن يعملون لتأمين رواتب من تقاعدوا عن العمل. في مجتمع يشيخ وتزداد فيه نسبة كبار السن مع زيادة في متوسط العمر، يقع نظام التأمين هذا تحت ضغط متزايد. فإذا كان ثمة أربعة عمّال مقابل كل متقاعد في ستينيات القرن الماضي، يوجد اليوم 1.7 عامل مقابل كل متقاعد. غير أن الحكومات الفرنسية التي غالباً ما كانت في يد اليمين الفرنسي تبتعد عن فكرة تحميل أرباب العمل جزءاً من حصة تعديل الميزان، بدعوى الحفاظ على قدرتهم التنافسية. والحقّ أن هذا التوجه لم يختلف في فترة رئاسة الاشتراكي فرانسوا هولاند (2012 - 2017). أما فترة رئاسة ماكرون، الذي يصنّف نفسه خارج اليمين واليسار، فقد كانت ربيعاً لكبار أثرياء فرنسا، إذ تقول المصادر إن ثروة أكبر خمسة أثرياء في فرنسا تضاعفت ثلاث مرّات في ظل ولايته الأولى (2017 - 2022)، ما يبرهن على صحة اعتباره "رئيس الأكثر ثراء". دائماً كان البحث عن الحلول على ضفة أصحاب الرواتب، وهذا ما يغذّي الاضطرابات الاجتماعية في فرنسا.

تكشف نظرة إلى العشرين سنة الماضية في فرنسا أن معظم الإضرابات والاحتجاجات انتهت إلى الفشل، وتم تبنّي القوانين التي خرجت الاحتجاجات ضدها، رغم زخم الاحتجاجات وطول أمدها. أبرز هذه المحطات "إصلاح فيون" في 2003، وإصلاح قانون التقاعد في 2010، وقانون العمل المعدّل أو قانون الخمري في 2017، وجميعها تنطوي على تراجع في حقوق أصحاب الرواتب. ولم تنفع الاحتجاجات والإضرابات في منع إقرار القوانين المذكورة، سواء بموافقة البرلمان أو بتجاوزه عبر استخدام الحكومة صلاحية تجيز لها ذلك.

التخلّي عن الوسائل الديمقراطية يهدّد النظام الديمقراطي نفسه

المحطّة الناجحة التي تستحضرها غالباً ذاكرة النقابيين الفرنسيين، هي إفشال خطة ألان جوبيه في 1995، على الرغم من إقرارها في البرلمان، بفعل الإضرابات التي أجبرت الحكومة على سحب الخطة، وإن كان فرانسوا فيون سينجح في إقرار بنودٍ من خطة جوبيه بعد ثماني سنوات، على الرغم من الاحتجاجات كما ذكرنا.

ليست كثيرة الاحتجاجات التي أجبرت الحكومة على التراجع في فرنسا. ومع ذلك، تستمر الاحتجاجات والاضرابات والمطالبات. هذا الواقع المتكرّر في فرنسا وفي غيرها من البلدان الديمقراطية يسمح بتسجيل ثلاث ملاحظات، يفيد الانتباه إليها في سعينا إلى نظام سياسي عادل ومتوازن في بلداننا:

الأولى، أن الاحتجاج على القرارات والقوانين التي تهاجم حقوق المحكومين، عمل لازم ولا يمكن التخلي عنه، ولا ينبغي أن يقود تكرّر فشل الاحتجاج في تحقيق ما يريد أو في ثني الحكومة عن قراراتها، إلى ضعف الحافز والاستسلام لما يتوافق عليه البرلمان، بدعوى أنه ممثل للشعب. لا يمكن أن يحلّ التفويض النيابي محلّ الحضور الدائم للناخبين في الحياة السياسية. تبقى الكلمة للدورات الانتخابية التالية كي تحاسب الحكومات التي لم تستجب للاحتجاجات، إذا كان في عدم استجابتها أضرار ملموسة على مستوى حياة الناخبين ونوعيتها. ذلك أن عدم الاستجابة للاحتجاجات يشكّل عبئاً على الحكومة، بقدر ما تكون الاحتجاجات واسعة، بذلك تؤتي هذه شيئاً من ثمارها.

تكشف نظرة إلى العشرين سنة الماضية في فرنسا أن معظم الإضرابات والاحتجاجات انتهت إلى الفشل

الملاحظة الثانية أن عدم الاستجابة للاحتجاجات والإضرابات، وهي حقوقٌ دستورية، لا ينبغي أن تقود إلى التصعيد في وسائل الاحتجاج نحو العنف. أي أن التخلّي عن الوسائل الديمقراطية يهدّد النظام الديمقراطي نفسه. ما يلفت الانتباه حقاً في النظام الديمقراطي هو وجود قدر لا بأس به مما يمكن تسميته "احترام حدود النظام". لا خلاف على أن أطراف الصراع تميل إلى فرض ما تريد بأقصى ما تستطيع من قوّة، ولكن ليس بأي سبيل كان، فاللجوء إلى العنف يبقى ضمن حدودٍ لا يتجاوزها. هذا من أهم عناصر ديمومة الديمقراطية. على أن تكرار فشل الاحتجاجات أسّس لبروز جماعاتٍ عنيفة تقوم على فكرة إن الحكومات لا تستجيب ما لم تتألم عن طريق أعمال التكسير.

احترام القواعد يفرض نفسه على الأطراف المتصارعة بقوة التمسّك المشترك بالنظام بوصفه مصلحة مشتركة، وهو ما يعكس مستوىً من إدراك قيمة هذا المكسب. لا يعني هذا عدم وجود أطراف (على شاكلة ترامب وبولسونارو) تميل إلى كسر النظام، ولكنها، لحسن الحظ، ذات فرص نجاح قليلة.

الملاحظة الثالثة أن الديمقراطية، بكل آلياتها من الانتخابات إلى المحاسبة إلى فصل السلطات إلى صون الحريات العامة ... إلخ، لا تشكّل حماية لحقوق المواطنين، ولكنها تمنح المواطنين سبل العمل لحماية حقوقهم. على هذا، من المهم عدم فهم النضال السياسي أنه مهمة تنتهي بإرساء نظام ديمقراطي، وكأن هذا النظام يشكّل بذاته درعاً يحمي حقوق المواطنين من خلال انتخاب ممثلين للشعب، ووجود صحافة حرّة وأحزاب ... إلخ. الصحيح أن النضال السياسي يبدأ بعد بناء آليات ديمقراطية للحكم، بعد أن يحوز الناس السبل التي تمكّنهم من النضال السلمي لحماية حقوقهم، كما يفعل الفرنسيون اليوم وبالأمس.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.