مقاومة التطبيع بالتطبيع والانقلاب بالانقلاب
ما نعلمه جيدًا، وما أظهره الواقع، أن الفلسطيني يستقبل المطبّع العربي الذي يذهب إلى الأراضي المحتلة بالحذاء، سواء كانت زيارته بدعوة من الكيان الصهيوني، أو بتأشيرة صهيونية.
يتحجّج المطبّع العربي طوال الوقت بأنه يفعلها تضامنًا مع الشقيق الفلسطيني ضد الاحتلال، غير أن هذا الشقيق الفلسطيني أعلن، غير مرة، بالقول والفعل، أنه يلفظ مثل هذه المسوّغات الباطلة لزياراتٍ لا يستفيد منها سوى الاحتلال.
الفلسطيني يدرك، بالفطرة وبالبداهة، أن العرب المهرولين إلى الأراضي المحتلة لا يخدمون قضيته، فينفجر غضبًا إذا ما اكتشف وجودهم هناك، متخفين في حراسة أمن الاحتلال الصهيوني. التعبير عن هذه المناعة ضد التطبيع، المغلف بعباراتٍ خادعةٍ عن الأخوة والقومية العربية لم يتوقف، منذ هاجم المقدسيون وزير الخارجية المصري أحمد ماهر في نهاية العام 2003 حين لمحوه يتسلل إلى المسجد الأقصى، وكادوا يفتكون به، وحتى مطاردة أطفال القدس، بالأحذية، وفد مطبّعين عرب، ضم على رأسهم سعوديا، وصفه نتنياهو بأنه أول ليكودي في السعودية، مرورًا بمحطّات كثيرة كانت وفود التطبيع تتخفى من الكاميرات، كي لا يتم رصدها متلبسة بهذا العار.
يعرف الفلسطيني كذلك، سواء كان سياسيًا متخصصًا أو مواطنًا عاديًا، أن إطلالة الوجوه الصهيونية عبر شاشات التلفزة العربية للدفاع عن سياسات الاحتلال وممارساته لا يخدم قضيته ولا يخفف آلامه، بل يفاقم معاناته تحت الاحتلال، حين يجد هذا الاحتلال من يوفر له منابر يروج فيها أكاذيبه التاريخية ويبرّر جرائمه الوحشية.
مسألة أن المهنية تتطلب عرض وجهة نظر طرفي الموضوع، من خلال استضافة المعتدي لمناظرة المعتدى عليه، قد تصلح لإعلام دولي، غير منحازٍ ، أو متحرّر من قيود الانتماء القومي، لكنها لا تصحّ مع إعلام عربي يقول إنه صوت المواطن العربي الرازح تحت نير الاحتلال والاستبداد.
الوقوف على حقائق الموقف الصهيوني، بالخبر والتحليل، يمكن أن يتحقق بطرق ووسائل عديدة، ليس من بينها أن يكون السياسي أو المعلق أو المحلل الصهيوني ضيفًا مفروضًا بقوة الإلحاح على كل بيت عربي، إذ لا تعدم الأراضي الفلسطينية المحتلة مئات المترجمين والباحثين العرب يمكن من خلالهم التعاطي مع السياسات والممارسات الصهيونية، في المواقف المشتعلة، ذات الأهمية والخطورة.
أما أن يتم افتعال معارك تافهة، لا لشيء إلا لكي تكون الوجوه الصهيونية حاضرة ومتحدّثة على الشاشات العربية، فهذا ليس له مسمّى آخر سوى التطبيع، لا يختلف عن سفر المطبّعين إلى الأراضي المحتلة، إلا في أن الثاني تطبيع بالإرسال، والأول تطبيع بالاستقبال، بل أن استضافة صهيوني واحد تلفزيونيًا قد يكون أخطر من ذهاب عشرة مطبّعين عرب بدعوة أو بموافقة من الكيان الصهيوني.
المثير للدهشة والسخرية أكثر أن يتصوّر منبر عربي أنه يمكنه محاربة التطبيع بمزيد من التطبيع، مثلما استضاف إعلامي مصري على شاشة "الجزيرة مباشر" وجهًا صهيونيًا، مثل إيدي كوهين، لكي يكشف أسرار وخبايا زيارة تطبيعية قام بها إعلامي مصري آخر منذ سنوات، وهو يحسب أنه يُحسن صنعًا أو يفضح المطبّعين، ذلك أنه هنا كمن ينهى عن شيءٍ ويفعل أسوأ منه، حين تتحوّل الحكاية إلى مبارزة، أو مغايظة، يرتكب فيها الطرفان الخطأ ذاته، ولا يخرج فائزًا من تلك العركة إلا الصهيوني الذي يجد نفسه شاهدًا وحكمًا بين متعاركيْن عربيين، في مناظرةٍ مفروضةٍ على ملايين المشاهدين العرب.
من الوهم أن يتخيل أحد أنه يمكن أن يخدم قضيته ضد الاحتلال أو الطغيان بالاستعانة بصهاينة، مثل إيدي كوهين، لكي يبدع في نسج الحواديت والحكايات الفاضحة لهرولة المطبعين والانقلابيين صوب الكيان الصهيوني، لأنك هنا لا تفعل شيئًا مختلفًا عما يفعلونه، ناهيك عن أن كل المعطيات تقول إن الطغيان حبيب الاحتلال وربيبه، وما بينهما من وشائج ومصالح مشتركة لا ينكره أي منهما.
هذا الوهم لا يقل كارثيةً عن وهمٍ سيطر على بعض الدوائر الرافضة للانقلاب العسكري في مصر قبل سنوات، وعشّش في رؤوس تسمّي نفسها ثورية، فجعلها تتصرّف بمزيج من الانتهازية والبلادة معًا، حين تصوّرت أنه بالإمكان إلحاق الهزيمة بما تعتبره "حكم العسكر" عن طريق الاصطفاف حول عسكري آخر.. أو كما وصل الحال ببعضهم إلى تخيّل أن استعادة ثورة يناير يمكن أن تتم بتعاون بين عدد من رموزها وبقايا نظام حسني مبارك، والاصطفاف خلف جنرال مثل أحمد شفيق لقيادة مسيرة النضال.