مع الحكومة وضدّها
ثمّة ميلٌ عام عند قطاع واسع من الجمهور العراقي إلى تأييد الحكومة، أي حكومةٍ كانت، وكان هذا ملموساً حتى مع السنة والنصف سنة التي قضتها حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي قبل أن تسقط إثر انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر (2019)، فعلى الرغم من الاحتجاجات المتعدّدة، خلال تلك السنة، من خرّيجي الجامعات وطلبة الدراسات العليا الباحثين عن فرص عمل، والانتقادات التي توجّهها الصحافة والنخب المدنية لسير عمل حكومة عبد المهدي، ومسافة النقد والمراقبة التي وضعها السيد مقتدى الصدر بعيداً عن الحكومة، رغم شراكته فيها، إلا أن المزاج العام كان مؤيداً للحكومة.
بالإضافة إلى هيبة السلطة التي تمنح نقاطاً مجانية لمن يشغل كرسيّها ابتداءً، فإن النقطة العميقة في هذا الميل أن الناس تؤيد السِلم، وتخشى الاضطرابات، وقد ترضى بحكومةٍ غير مثالية من أجل الأمن واستقرار أسعار السوق، كما أن هؤلاء الناس يتطلّعون إلى "الدولة" في معرض تأييدهم الحكومة، وقد يقول قائلهم إنه يؤيد الحكومة ويقصد أنه يؤيد الدولة، ضد الخارجين عليها، وضد انفلات الأوضاع الأمنية وضد الفساد.
لقد أيّد الناس زعيم حركة الوفاق إياد علاوي وصارت شعبيته كبيرة بين مختلف الأوساط العراقية، لأنه أبدى حزماً في مواجهة المليشيات ومحاربة التنظيمات الإرهابية. وأفادته هذه الشعبية في أن يغدو رقماً صعباً في كل الدورات الانتخابية اللاحقة. وكان على شفا أن يشكّل حكومة جديدة عقب انتخابات 2010.
ذهب التأييد الشعبي وراء المالكي، للأسباب نفسها، لأنه أشعر الناس بوجود الدولة، مع عمليات "صولة الفرسان" في البصرة في مارس/ آذار 2008.
وربما كان حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي الأكثر شعبية مقارنة بغيره، لأنه أدار عمليات التحرير من سيطرة "داعش" بتوازن وحيادية، وحسّ وطني واضح، بعيداً عن الخطابات الطائفية. وكان من الممكن أن يحصل على ولاية ثانية بعد 2018، إلا أنه أدار حملته الانتخابية بشكل سيئ، وخافت الطبقة السياسية الشيعية (ذات الأقطاب المتعدّدة) من أن يُغطّي عليها. واضطرّ إلى التراجع من المواجهة مع هذه الطبقة، طمعاً في مظلّة الحماية التي توفّرها له، رغم أن فرصه كانت أكبر من غيره ليُحدث تحوّلاً سياساً كبيراً يوازي إنجاز التحرير العسكري على الأرض.
حتى مع مصطفى الكاظمي، الذي جاءت به احتجاجات تشرين (2019) خلفاً لعادل عبد المهدي، فإن الناس وضعت ثقتها فيه، وتمنّت لو أنه يُنجز النقلة المطلوبة من بلد تتسلّط عليه قوى متعدّدة تنافس قوّة الدولة وتسلب الكثير من هيبتها إلى فضاء جديد تفرض فيه مؤسّسات الدولة سيطرتها على المشهد الأمني والاقتصادي. ولكن هذا لم يحدُث.
واليوم مع حكومة محمد شيّاع السوداني هناك تأييد واضح من قطاعاتٍ من الجمهور العراقي، وكثيرون منهم يريدون أن يصدّقوا كلام رئيس الوزراء في المقابلات التلفزيونية عن الإنجازات والتنمية الاقتصادية والإعمار وما إلى ذلك، لأن الناس تميل إلى تصديق ما ترغب به أكثر من ميلها إلى استدعاء المشاعر السلبية.
ليست لدى هذه الفئة من الناس الذين نتحدّث عنهم دوافع سياسية، ولا يؤيّدون أو يعارضون لأسباب عقائدية وسياسية، وإنما البوصلة الداخلية عندهم تتحرّك باتجاه الإنجازات الظاهرة للعيان، ولا شأن لهم بنقاشات النخب الثقافية والإعلامية بشأن المشكلات العميقة في بنية الدولة، واستعصاء النظام السياسي على الإصلاح، وصعوبات التنمية، مع الاقتصاد الريعي وسيطرة الأحزاب والفصائل المسلحة على العمليات الاقتصادية بالمجمل، وعمليات غسيل الأموال والابتزاز وركوب ظهر المشاريع الاقتصادية الخاصّة، وتهلهل نسيج مؤسّسات الدولة والسلاح المنفلت وغير ذلك من قضايا تورِث الكآبة والسوداوية.
يمكن أن يصدّق الناس أي خطوات ملموسة تتحقّق على الأرض، حتى وإن كان الإصلاح الشامل بعيداً جداً. ولكن المعطيات تقول إن أملهم سيخيب، كما حدث سابقاً، إن علّقوا آمالاً كبيرة على مجيء قريبٍ لرجلٍ يُحدث منعطفاً كبيراً في وضع الدولة العراقية بشكل عام.