معضلة فتح المجال العام في مصر
واهمٌ من يعتقد أن السلطة التي تحكم مصر ستتّجه طواعية بتركيبتها الحالية إلى الانفتاح السياسي والتسامح مع المعارضة بفعل التعثر الاقتصادي وحده، من دون أن تكون تحت ضغط سياسي من الخارج والداخل، يدفع نخبة الحكم أو قطاعا معتبرا منها إلى تغيير حساباتها تجاه جدوى القمع. يدرك الرئيس عبد الفتاح السيسي أن فتح المجال العام في الظروف الاقتصادية الصعبة الحالية ستكون له تكلفة سياسية عالية، خصوصا وهو مقبلٌ على الانتخابات الرئاسية في منتصف العام المقبل. من الواضح أن فكرة الحوار الوطني التي أعلنها السيسي منذ نحو عام قد تعثّرت، لم تكن سوى محاولة مسرحية لتجديد شرعية الرئيس داخليا وخارجيا في سياق الأزمة الاقتصادية. لقد تركّز النقاش في مصر منذ أعلن عن مبادرة الحوار الوطني، ثم إعادة إحياء لجنة العفو الرئاسي وتشكيلها، حول إمكانات فتح المجال العام في البلاد، وليس مجرّد اتخاذ إجراءاتٍ محدودة، مثل الإفراج العشوائي عن بعض المعتقلين والسجناء. ولكن المناخ السياسي العام في مصر ما زال يدور في حلقةٍ مفرغةٍ من القمع والتضييق على حريات التعبير والتنظيم، والانتقام من المعارضين وابتزازهم بأدواتٍ مختلفة، سواء داخل البلاد أو خارجها في سياق ما أسماه تقريرٌ حديثٌ صادر عن ثماني منظّمات حقوقية مصرية بارزة "استراتيجية منهجية ومتعمّدة تعصف بحقوق الإنسان".
يمثل نشر الخوف أحد أركان ما يعتبرها محللون "شرعية الابتزاز" التي اعتمدها النظام الحاكم في مصر طوال السنوات الماضية، منذ طلب السيسي التفويض الشعبي لمحاربة الإرهاب في يوليو/ تموز 2013، مبرّرا لحرمان المصريين من الحد الأدنى من حقوقهم وحرياتهم الأساسية. وقد كان السيسي واضحاً في التعبير عن هذا التوجه في خطابه خلال الندوة التثقيفية للقوات المسلحة قبل أيام، عندما حذّر المصريين من الإقدام على "تخريب وتفكيك بلادهم كما حدث في يناير 2011". يطلق الرئيس هذه التصريحات في وقت تشتدّ الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية على المصريين، وتحسّباً لأي غضبٍ شعبيٍّ محتمل قد لا يمكن السيطرة عليه.
لن يكون تغيير بوصلة الاستبداد السياسي والتدهور الاقتصادي في مصر سهلاً، في ظل تركيبة السلطة الحالية
يعتمد استقرار نظام الحكم في مصر واستمراريته على معادلة التوازن بين الرئيس والجيش ممثلاً في المجلس الأعلى للقوات المسلحة. منذ وصول السيسي إلى الحكم أصبح تغوّل النفوذ السياسي والاقتصادي للجيش، وتغذية شبكة المصالح المرتبطة به أساس الغطاء السياسي الذي يدعم استمرار بقاء السيسي في الحكم. تطلبت هذه المعادلة ترتيباتٍ جديدةً أعطت وزناً سياسياً للمجلس الأعلى للقوات المسلحة في اختيار وزير الدفاع، وفي أن يكون الجيش ضامناً للدستور بموجب التعديلات الدستورية لعام 2019، وأن تكون له الكلمة النهائية في ترشيح أي عسكري حالي أو سابق لرئاسة الدولة المصرية. وبهذا الشكل، أصبح الجيش على حد قول الحقوقي بهي الدين حسن "صانع الملوك". وسعى السيسي، طوال الوقت، إلى اتخاذ خطواتٍ من شأنها الحصول على دعم الجيش، وفي الوقت نفسه، ضمان سيطرته على تشكيل المجلس العسكري. قدّم امتيازات اقتصادية ومالية وقانونية ضخمة متنوعة لكبار القادة العسكريين، تجعلهم فوق القانون والدولة، سواء خلال خدمتهم أو بعدها. وقد أصبحت حسابات استقرار هذه الامتيازات والمصالح المحرّك الأساسي في تقييم المؤسسة العسكرية المصرية جدوى أي تحوّل سياسي محتمل في مصر وتداعياته. وقد حرص السيسي على تعديل القوانين التي تضمن له تغيير المناصب الحيوية في الجيش بشكل مستمر، أو إطالة خدمة بعض القيادات المضمون ولاؤها. وقد تراكمت الانتهاكات والجرائم طوال السنوات السابقة، وتورّطت مؤسسات الدولة في ارتكابها والتواطؤ عليها، ما يمكن اعتباره تشكّل مصلحة وجودية مشتركة بين أركان نظام الحكم العسكرية والمدنية. وقد صعّب هذا السياق السياسي من مهمة إقناع نظام الحكم بتقديم تنازلاتٍ نوعيةٍ في مجال حقوق الإنسان، من شأنها الإخلال بعلاقات القوة القائمة، خصوصا في ظل عدم تبلور تيار معتدل في نخبة الحكم، خصوصا العسكرية، من شأنه الدفع بتبنّي بعض الإصلاحات السياسية والحقوقية، كما جرى في دول أخرى مرّت بظروف سياسية مشابهة في أعقاب انقلابات عسكرية، مثل البرازيل وتشيلي، خصوصا أن الجيوش في هذه البلدان لم تنغمس في التحكّم الواسع في مفاصل الاقتصاد بالشكل الذي حدث في مصر. وقد تمثل آخر تهديد نوعي خرج من وسط قيادات الجيش في الخطوات التي اتخذها كلٌّ من سامي عنان وأحمد شفيق لمنافسة الرئيس في الانتخابات الرئاسية لعام 2018، ولكنها قوبلت بتدابير صارمة من المؤسسة العسكرية، وبعدها عدّل القانون لكي يكون ترشّح أي عسكري حالي أو سابق بموافقة المجلس العسكري.
ثلاثة عوامل قد تدفع السلطات المصرية، وفي ظل التعثر الاقتصادي الحالي، إلى توسيع مساحة المجال العام. يتمثل الأول في الضغوط الدولية، والمقصود ليس الضغوط الرمزية من تلك الدول التي تندّد بانتهاكات حقوق الإنسان، لكنها تستمرّ، في الوقت ذاته، في توطيد علاقات عسكرية وأمنية ثنائية مع الحكم في مصر، فهذا النظام عادة لا يستجيب إلا لتلك الضغوط الدولية التي قد تهدّد مصالحه الحيوية. ممارسة هذا النوع من الضغوط الخارجية من الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية أمر غير وارد حالياً، في ظل الانشغال في مواجهة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، واستمرار الاحتياج الجيواستراتيجي لمصر دوليا وإقليميا. ومن غير الواضح بعد أن ضغوط بعض القوى الإقليمية العربية حالياً واختلافها مع السلطة في مصر في طريقة تسيير الاقتصاد قد تكون منفذاً لإحداث تغيير في المشهد السياسي، خصوصاً أن هذه القوى نفسها تساهم في إعطاء جرعات أوكسجين لإنقاذ حكومة السيسي اقتصادياً.
سعى السيسي، طوال الوقت، إلى اتخاذ خطواتٍ من شأنها الحصول على دعم الجيش، وفي الوقت نفسه، ضمان سيطرته على تشكيل المجلس العسكري
العامل الثاني ظهور جبهة سياسية عريضة تستطيع أن تطرح للمجتمع المصري بديلاً سياسياً، وتستثمر سياسياً في فرصة حلول انتخابات الرئاسة منتصف العام المقبل، للضغط على السلطة وإحراجها داخلياً وخارجياً. لكن احتمالات تحقق هذا السيناريو ما زالت ضعيفة للغاية في ظل التجريف السياسي الحاد، وما تلقته المعارضة السياسية والمجتمع المدني المصري من ضربات عنيفة طوال السنوات الماضية.
يتمثل العامل الثالث في تصاعد الاحتجاجات الشعبية التلقائية، غير المنظّمة تحت وطأة صعوبات المعيشة. لن تتردّد السلطات في ممارسة قمع وحشي ضد أي احتجاجاتٍ من هذا النوع. وقد رأينا ذلك في الاعتقالات الجماعية والمستهدفة والعشوائية التي تمت بشكل هستيري تجاه الدعوات لاحتجاجات سبتمبر/ أيلول 2019 و2020 ثم نوفمبر/ تشرين الثاني 2022. ولكن طبقاً لتقارير حقوقية تشهد القطاعات العمالية في المصانع والشركات، سواء في القطاع العام أو الخاص في عدة مدن مصرية معدّلات مرتفعة للاحتجاجات والإضرابات للمطالبة بزيادة الرواتب وصرف الحوافز لمواجهة ارتفاع أسعار المعيشة. استمرارية هذه الاحتجاجات، واتساع نطاقها في المجتمع قد يؤدّيان إلى تحوّلها في الشهور المقبلة إلى فعل سياسي يمثل ضغطا حقيقيا على الرئيس وداعميه في المؤسسة العسكرية.
لن يكون تغيير بوصلة الاستبداد السياسي والتدهور الاقتصادي في مصر سهلا، في ظل تركيبة السلطة الحالية، وفي ظل تورّط مختلف مؤسسات الدولة على مدار السنوات السابقة في فرض شرعية الأمر الواقع لنظام الحكم. لن تُقدم السلطة في مصر على فتح المجال العام طواعية، بل ستُدفع إلى ذلك فقط عندما يتيقن القائمون على الحكم من أن الكلفة السياسية للاستمرار في القمع وانتهاكات حقوق الإنسان ستكون أعلى من اتخاذ خطوات إصلاحية. ليس تدهور الوضع الاقتصادي والظروف المعيشية كفيلا وحده بتغيير حسابات هذه السلطة، ما لم يصاحبه ضغط خارجي جاد أو فعل سياسي داخلي واحتجاجي منظّم.