عملية "ردع العدوان"... النجاح ومقدّمات سقوط النظام

09 ديسمبر 2024

مسلحون من المعارضة السورية يتمركزون في مطار حلب (2/12/2024 فرانس برس)

+ الخط -

فاجأت فصائل المعارضة السورية المتمركزة في شمال غرب سورية، صبيحة 27 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) قوات النظام السوري، ومليشياته الداعمة له، بهجوم عسكري انطلق من قرية الشيخ عقيل بريف حلب الغربي، تحت مسمّى "ردع العدوان"، ووضّحت، عبر بيانها الأول، أنّ هدف العملية حماية المدنيين في المناطق المحرّرة، وردع جيش النظام، ومليشيات إيران وحزب الله عن استمرار استهداف السوريين بالصواريخ والمدفعية، إذ ارتكبت تلك القوات قبل أيّام من المعركة مجزرةً مروّعةً في بلدة أريحا بريف إدلب، طاولت معهداً لتحفيظ القرآن، وأحياءَ سكنية بمدينة الباب بريف حلب.
منذ اليوم الأول للمعركة، اتضح أنّ أهدافها أكبر من اسمها، فخلال خمسة أيّام فقط، استطاعت الفصائل وصل أرياف حلب بإدلب، وتحرير مدينة حلب بالكامل، ووصلت أبواب مدينة حماة بعد تحرير ريفها الشمالي، وريف حمص الشمالي، وحرّرت مدينة تلّ رفعت بريف حلب، بمساحة تٌقدر أكثر من 7460 كيلومتراً مربّعاً، قبل أن تطيح النظام في دمشق. وتغيّرت رسمياً خرائط النفوذ متجاوزة حدود الاتفافيات (سوتشي/أستانة لعامين 2019-2020) الموقّعة بين تركيا وروسيا وإيران. ثم استطاعت بعد 11 يوماً إسقاط النظام.

كان عنصر المفاجأة عاملاً حاسماً في جملة الإنجازات العسكرية لفصائل المعارضة

جاء التقدّم المذهل لفصائل المعارضة لعدّة أسباب موضوعية وذاتية، في مقدّمتها وجود خطط عسكرية استراتيجية، وغرفة عمليات موحّدة، ومشاركة جماعية من فصائل المعارضة بما فيها هيئة تحرير الشام. التزمت جميع الفصائل بالتعليمات كلّها الصادرة عن غرفة العمليات العسكرية لردع العدوان، مقدّمةً ملاحمَ بطوليةً وعسكريةً من حيث الانضباط والدقّة في التنفيذ بشكل أبهر العالم، ووصل صداها إلى الصحف الغربية والأوروبية، التي أشادت بإنجازات المعارضة في حلب. ربّما هي المرّة الأولى التي لم نُسجّل فيها نقداً أو ملاحظة صغيرة على الأعمال العسكرية، مردّ ذلك استفادة الفصائل من حالة هدوء الجبهات منذ العام 2018، فقد تعلمت من أخطائها السابقة خصوصاً في معارك حلب الأولى 2012 - 2016، واستخلصت الدرس والعبر، وبنت عليها من ناحية تأهيل العنصر البشري، فغدت أكثر قوة وخبرةً من أيّ وقت مضى. وتفرّغت لمواكبة السلاح التكنولوجي المعروف بالمُسيَّرات، وأنتجت وحدة خاصّة تسمّى كتيبة شاهين، مخصّصة لاستخدام مُسيَّرات محلّية الصنع إلى حدّ ما، واستخدمت بالمعركة الجارية للمرّة الأولى علناً في استهداف تجمّعات النظام في حلب وريف حماة، وهذه كانت مفاجئة قاسمة لقوات النظام ومليشياته، جعلتهم يفرّون أذلّاء من مواقعهم، تاركين عتادهم الحربي الخفيف والثقيل.
انهيار جيش النظام
أحد أهم أسباب سرعة تحرير المناطق في هذا الزمن القياسي، خاصّة داخل مدينة حلب، الانهيار السريع لخطوط الدفاع العسكرية لقوات النظام السوري، وهروب مليشيات إيران وحزب الله من دون أيّ مقاومة، حتى أننا لم نشهد ولا مواجهة واحدة، على عكس ما جرى في معارك حلب قبل سقوطها على أيدي روسيا 2016، إذ كانت قلاع النظام في حلب الغربية، في مقابلة ترسانة عسكرية كلّفت الفصائل تقديم تضحيات كبيرة في الأرواح والعتاد، وبمساندة الطيران الروسي الذي حسم الأمر باستخدام الأرض المحروقة، والإبادة الجماعية لأبناء المحافظة. المقارنة بين معارك الأمس واليوم لم تعد صالحة، فشكّل غياب العامل المعنوي لقوات النظام، وفقدانهم العقيدة القتالية، سببان كبيران في تقدّم الفصائل، وهذا بات مفهوماً بالنظر لسنوات الحرب التي فككّت جيش النظام، واستنزفت قدراته، بل حقيقة الأمر لم يعد للنظام السوري جيش من منظور عسكري، وانتهى منذ سنوات، ومن كان يمسك الأرض هم الغرباء، والميليشيات التي دخلت البلاد تحت شعارات طائفية قادمة من إيران.
كان عنصر المفاجأة عاملاً حاسماً في جملة الإنجازات العسكرية لفصائل المعارضة، فلم يكن في مخلية النظام السوري، أن تحدث معركة بهذا الحجم والتوقيت، واعتقد أنّ قيود أستانة وسوتشي قد طوت نهائياً مرحلة الأعمال العسكرية التي استثمر بها سياسياً طيلة سنوات، محاولاً تعويم نفسه في الساحتين العربية والدولية. كما كان يعتقد أنّ حلفاءه الروس والإيرانيين لن يسمحوا على الإطلاق بمشاهدة زحف الفصائل مجدّداً، بعد الدعم الذي بذلوه لإنقاذه من السقوط، في مقابل منحهم امتيازات سيادية واقتصادية في سورية.
من هذا المنطق، ظهرت عنجيهة الأسد ونظرة التعالي التي استخدمها مع الدول العربية في مسارات التطبيع، ضارباً بعرْض الحائط العروض والإغراءات كلّها، التي قدّمتها له تركيا بهدف التعاون، وإيجاد حلول مشتركة وصولاً إلى الحلّ السياسي لإنهاء الأزمات في سورية. غياب مساندة الحلفاء من مليشيات وسلاح طيران روسي، ومنح وأموال لدعم المجهود الحربي، كان أيضاً سبباً في اتخاذ النظام قراراتٍ بانسحاب قواته من حلب، وسراقب، ومعرّة النعمان، وخان شيخون، وصولاً إلى الانسحاب من ريفي حماه وحمص الشمالي، متوجّهين نحو حمص المدينة والعاصمة دمشق، بهدف تأمينها، خشية من وصول الفصائل العسكرية إليها، لكن من دون جدوى.

انهارت سريعاً خطوط دفاع قوات النظام السوري، وهربت مليشيات إيران وحزب الله من دون أيّ مقاومة

دلالات التوقيت
كان توقيت معركة ردع العدوان أكثر ما جاء في عنصر المفاجأة أهميةً، فكان مدروساً بدقّة، وجاء عقب توقيع اتفاق الهدنة بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، وهو الاتفاق الذي تُرجِم من الفصائل السورية بإعلان نهاية ذراع إيران في لبنان، وانطلاقة في سورية، فظهرت مؤشّرات على نيّة حزب الله إعادة تموضعه في سورية، بعد خسارته في جنوب لبنان، ولإيران دور مركزي في هذا التوجيه، فقرّرت الفصائل قطع الطريق على إيران وحزب الله، مستفيدةً من قرار دولي بإنهاء أذرع إيران في المنطقة. تلاقي المصالح الدولية ضدّ إيران ساهم في اتخاذ قرار المعركة، إلى جانب استناد الفصائل إلى تلاقي مصالحها مع تركيا بملفّين اثنين ملفّ إعادة اللاجئين، وإنهاء مشروع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتحقيق رغبة الفاعل التركي بملئ الفراغ الناتج عن انسحاب أذرع إيران من المنطقة ومنع "قسد" من وصل مناطقها من منبج إلى حلب وتلّ رفعت. وصولاً إلى التوافق الأكثر أهمية بين السوريين وتركيا إلى إيجاد حلّ سياسي لإنهاء كامل الملفّ، وتحقيق الاستقرار، ونقل سورية إلى مرحلة الاستقرار ما يعزّز الأمن القومي التركي في حدودها المشتركة بين سورية العراق.
جاء توقيت المعركة أيضاً في وقت يُعاني فيه حليفا النظام، روسيا وإيران، من انحسار دورهم في سورية، بعد تغيير إسرائيل المشهد كلّياً منذ انطلاق "طوفان الأقصى" في غزّة، وتمدّده في لبنان، فخلال عام خسرت إيران بالكامل تقريباً ما بنته طوال عقود في لبنان وسورية. في حين كان توقيت المعركة بمثابة كارثة على روسيا الغارقة في الحرب الأوكرانية منذ ثلاثة أعوام.
الموقف الدولي
بعد ساعات من المعركة، أصدرت وزارة الخارجية التركية بياناً أوضّحت فيه موقفها. كانت الرسالة واضحةً لحلفاء النظام والمجتمع الدولي، مفادها بأنّ خروق النظام المستمرّة لاتفاقيات خفض التصعيد لم تعد مقبولةً، وبات لازماً وضع حدٍّ لها، وحماية المدنيين السوريين خشية موجات نزوح جديدة لتركيا. كانت الرسالة الثانية بمثابة صاعقة على النظام السوري، إذ حمّلته ما جرى لبشّار الأسد كلّه، بعد رفضه عروضها في مسار التطبيع والجلوس إلى طاولة الحوار. بذلك تكون تركيا أزالت عنها حالة الحرج مع روسيا، والولايات المتحدة، بعد التنسيق معها في دعم المعارضة السورية من الخلف، من دون تبنّيها الانخراط في المعركة.
عملياً، قلبت أنقرة الطاولة على رأس النظام السوري، وحشرته في الزاوية، وتفرّغت كلياً لاستغلال الفرصة الدولية ضدّ إيران، لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في سورية، واستطاعت عبر فصائل السورية نزع ورقة تلّ رفعت ووصلت مناطق نفوذها بين ضفّتي الفرات، وفُتِحت الطرق الدولية؛ طريق غازي عنتاب حلب، ومن حلب إلى إدلب، حتى ريفي حماه وحمص، ما يعني إنعاش حركة الاقتصاد التركي والتجارة الدولية، والهدف الأكثر أهمية حلّ ورقة اللاجئين السوريين، فالمساحة المحرّرة تكاد تستوعب كلّ اللاجئين السوريين خصوصاً في حلب المدينة.
أما روسيا، فبالرغم من قوتها الاستخبارية، إلّا أنها فوجئت أيضاً بسرعة انهيار النظام. المشهد في مدينة حلب هو آخر ما كانت تتمنّى موسكو رؤيته، بعد الدعم كلّه الذي قدّمته للنظام منذ 2015. التصريح الذي صدر من الكرملين في اليوم الثاني لمعركة ردع العدوان دليل واضح على خيبة الرئيس بوتين من بشّار الأسد، إذ ذكر البيان أنّ على السلطات السورية استعادة الأمن في البلاد، فُسّر ذلك تخليّاً واضحاً عن دعمها بشّار الأسد، وتركه يُواجه مصيره بنفسه، وكانت لافتة آراء بعض المحلّلين الروس في تحميل الأسد كامل المسؤولية في فشل الحفاظ على مناطق سيطرته.
من الأهمية التأكيد على أن روسيا اليوم ليست هي في العام 2016، فمن ناحية استنزفت جزءاً كبيراً من مجهودها الحربي في مناطق نفوذها في سورية وليبيا ومناطق أسيا الوسطى وأفريقيا. وخلال العامين الماضين، سحبت كثيراً من عناصرها وقطعها الحربية في سورية لاستخدامها في الحرب الأوكرانية التي أصبحت اليوم أولية أولى لها، وأكثر أهمية بكثير من إنقاذ نظام بشّار الأسد. القرار الدولي بإنهاء دور المليشيات الإيرانية في المنطقة، أفقد الروس حماستهم من تقديم الدعم المطلوب لإنقاذ الأسد للمرّة الثانية، فسابقاً كانت تُنسّق مع إيران في سورية، ولعبت المليشيات دوراً كبيراً في مسك الأرض بعد التهميد الجوي من الطيران الروسي، ومع انسحاب تلك المليشيات أدركت روسيا أن سلاح الجو وحده لن ينفع في استعادة المناطق التي خسرها النظام، لا سيّما أن الفصائل السورية الثورية المعارضة أصبح لديها مضادّ طيران وأسلحة ومُسيَّرات لم تكن بحوزتها سابقاً. تغيير المشهد الدولي في منطقة الشرق الأوسط غيّر الحسابات الروسية كلّها، وباتت اليوم في موقف ضعف، سيقودها لاحقاً للحفاظ فقط على قواعدها في سورية، في طرطرس وحميميم.

انهار النظام مع تولّد قناعة دولية جديدة بحتمية التغيير السياسي في سورية لصالح السوريين، رفعت الغطاء الكامل عن حماية بشّار الأسد

على الصعيد الدولي، جاءت البيانات من البيت الأبيض والخارجية البريطانية في غاية الوضوح، محمّلةً النظام السوري مسؤولية ما يحدث بعد اعتماده على روسيا وإيرن، ورفضه الانخراط في العملية السياسية وتطبيق قراري مجلس الأمن 2118 و2254 (مرحلة انتقالية في سورية ودستور جديد للبلاد). هذه أولى المواقف المهمّة إلى جانب موقف فرنسا، التي قالت إنها تراقب عن قرب ما يجري في سورية. ثمّ فرضت عمليتا "ردع العدوان" و"فجر الحرّية" أمراً واقعاً جديداً، فرض على اللاعبين الدوليين إعادة حساباتهم في مصير النظام السوري، وباءت تحرّكات بشار الأسد قبل هروبه بالفشل، فطلب من العراق وساطةً مع تركيا لإيقاف زحف الفصائل، وزيادة الدعم عبر إرسال مليشيات ومرتزقة للقتال نيابة عن جيشه المتهالك، فتجاهل العراق طلبه، وأغلق الحدود السورية العراقية بطلب من أميركا وفق المعلومات. عودة الأسد خالي الوفاض من موسكو جعلته يطرق أبواب المملكة العربية السعودية والإمارات للدخول في خطّ الوساطة وتفعيل دول اللوبيات داخل الولايات المتحدة وإسرائيل لإتقاذه من الورطة التي تسببت في سقوطه. استمرّ زحف الفصائل العسكرية، من دون أي ضغوط دولية حتى تحقق حلم التغيير السياسي وطويت صفحة عائلة الأسد إلى الأبد.
خاتمة
بعد اليوم الخامس على استمرار المعارك العسكرية وتحرّك لافت للفصائل المحلية، في درعا وحمص، لم يعد هناك سقف زمني وهدف واحد للمعارك، بل سنحت الفرصة مع تداعي النظام السوري عسكرياً وسياسياً، وكانت كلّ منطقة تحرّر بمثابة رصيد استراتيجي.
انهار النظام تماماً، مع تولّد قناعة دولية جديدة بحتمية التغيير السياسي في سورية لصالح السوريين رفعت الغطاء الكامل عن حماية بشّار الأسد، فتغاضت عن زحف الفصائل السورية، حتى محاصرة نظام الأسد في العاصمة دمشق بعد 11 يوماً. ولم تتح فرصة إنقاذ النظام السوري عبر تدخّل دولي، لوضع حدود جديدة لمناطق السيطرة، في مقابل إجبار الأسد على الانخراط في العملية السياسية، وتطبيق القرارات الدولية.
كانت النتيجة إنهاء حقبة آل الأسد وعبور سورية مرحلة التغيير والاستقرار النسبي.