معركة المفاهيم والدلالات في مواجهة العدوان على غزّة
يشنّ الاحتلال الصهيوني عدوانًا مكثفًا ومتصاعدًا على كامل شعب فلسطين الأصلي وأرضه منذ السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، في سياق عدوانه واعتدائه المستمرّ منذ عام 1948، إذ يطاول قطاع غزّة اليوم القسم الأكبر من جرائم الاحتلال وإرهابه، في جرائم موصوفة لا يمكن دحضها، من تطهيرٍ عرقيٍ وعقابٍ جماعيٍ وتهجيرٍ قسريٍ مستمرٍ وممنهجٍ، أفضى ويفضي إلى قتل آلاف الأطفال وآلاف النساء والرجال من المدنيين، منهم أطباء ومسعفون وصحافيون وموظفو الوكالات الدولية؛ خصوصًا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، إذ أسفر إرهاب الاحتلال الحالي عن قتله قرابة 11 ألف مدني فلسطيني منذ 7 أكتوبر، قرابة نصفهم من الأطفال.
لم يقتصر عدوان الاحتلال الراهن على جرائمه الموصوفة هذه، بل امتدّت إلى معركة الرواية التي حاول من خلالها إدانة المقاومة الفلسطينية، وحقّ الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال، عبر وصمها بالإرهاب، وهو ما فشل فيه إلى حدٍ كبيرٍ، رغم الدعم الأميركي والبريطاني الرسميين المطلقين، وهو ما قد تتكشّف نتائجه في المستقبل القريب، إذ تصاعد الدعم الشعبي العالمي لفلسطين وقضيّتها، ولحقوق شعبها الأصلي تسارعًا لم يكن في حسبان الاحتلال وداعميه، رغم التقيدات والإدانات الدولية، ورغم محاولة تجريم دعم القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية.
ويخوض الاحتلال وداعموه معركةً أخرى لا تقلّ أهمّيةً وخطورةً عن المعركتين السابقتين، وهي معركة المفاهيم والدلالات، في محاولةٍ منهم لتقويض ركائز القضية الفلسطينية، والحدّ من تداعيات هزيمة الاحتلال المتسارعة أخيرا. وحرب المفاهيم والدلالات واسعةٌ وممتدةٌ ومتفرعةٌ إلى فروعٍ عديدةٍ، سوف تتناول المطالعة بعض فروعها.
المدني والأعزل والعسكري
أدّت عملية طوفان الأقصى إلى أسر مستوطنين وجنود إسرائيليين، وهو ما سوّقه الاحتلال أنّه اختطافٌ، ونجح إلى حدٍّ بعيدٍ في وصفهم بالرهائن. بدايةً، علينا التمييز بين الأعزل والمدني، فالأعزل هو أيّ شخصٍ لا يحمل سلاحًا في مكانٍ وزمانٍ محدّدين، وهو ما ينطبق على قسمٍ من الأسرى المستوطنين، في حين أنّ المدني، وفق تعريف المصطلحات السياسية، هو كلّ شخصٍ لا ينتمي بصفةٍ دائمةٍ أو مؤقتةٍ إلى هيئةٍ عسكريةٍ، كما عرّفه القانون الإنساني الدولي عام 1977، وفق تعديله لاتّفاقية جنيف الثالثة عام 1949، "هو أي فردٍ ليس عضوًا في إحدى المجموعات التالية: القوات المسلحة النظامية...، المليشيات أو فرق المتطوّعين التي تشكّل جزءًا من هذه القوات المسلّحة...، المجموعات ووحدات المنظمة...". ويظهر هذا الاقتباس المختصر أنّ أيّ جزءٍ يرفد القوات المسلحة بعناصر مقاتلةٍ دائمةٍ أو غير دائمةٍ لا يعدّ مدنيًا، وهو ما ينطبق على عناصر جيش الاحتياط الصهيوني. وعليه، يتطلّب توصيف المدني في حالة الاحتلال الصهيوني الذي يستند إلى مبدأ جيش الشعب، أو الجيش الشعبي، تدقيقا كثيرا، فجيش الاحتلال، وفق ما هو وارد على صفحته الإلكترونية الرسمية، هو "الشعب يبني الجيش والجيش يبني الشعب"، ثم يضيف بما يخصّ جيش الاحتياط "يشكل جنود الاحتياط، الذين يتم تجنيدهم بموجب القانون، جل قوّة جيش الدفاع". وعليه، فجيش الاحتياط، بجميع منتسبيه، جزءٌ من جيش الاحتلال، وهو ما ينفي عنهم صفة المدنية، من دون أن ينفي صفة الأعزل في حالة عدم استخدامهم للسلاح في لحظةٍ ومكانٍ محددين.
الواضح أنّ الاحتلال هو القوّة المعتدية على المدنيين الفلسطينيين تاريخيًا، عبر اختطافهم وإيداعهم في سجونه العديدة
وجديرٌ بالذكر أنّ الاحتلال يتبع نظام التجنيد الإجباري لكلّ ذكرٍ وأنثى؛ باستثناء العرب يزيد عمره (وعمرها) عن 18 عامًا، 24 شهرًا للإناث، و32 شهرًا للذكور. كما يفرض الاحتلال على كلّ ذكرٍ أنهى مدة تجنيده الإلزامي المشاركة في تدريباتٍ خاصّةٍ سنويةٍ يجريها جيش الاحتلال في الوحدة أو الكتيبة التي شارك فيها حتى يبلغ 50 عامًا، وتكون الخدمة مدفوعة الأجر من الدولة وفق راتب عمله. وعليه، كلّ ذكرٍ لم يبلغ الـ 50 عاما هو من جنود جيش الاحتلال غير الدائمين.
بناء عليه، ينحصر وصف المدني هنا في الأطفال الأصغر من عمر التجنيد الإلزامي، أي الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة، وفي الإناث ممّن أنهينا خدمتهن الإلزامية، ومن الذكور ممن تجاوزوا الخمسين، باستثناء حالات تُعفى من الخدمة الإلزامية ومن خدمة الاحتياط.
على الطرف الآخر؛ نجد في ما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال قصورًا في عرض الحقائق المتعلقة بهم، التي استعرضت بعضًا منها فرانشيسكا ألبانيز، مقرّرة الأمم المتّحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة منذ 1967، في تقريرها الذي قدّمته أمام مجلس حقوق الإنسان في 10/7/2023، الذي نصّ على "تعرّض الفلسطينيين للاحتجاز الطويل بسبب التعبير عن آرائهم، والتجمّع، وإلقاء الخطب السياسية غير المصرّح بها، أو حتّى مجرّد محاولة القيام بذلك. وفي نهاية المطاف، يُحرمون من وضعهم مدنّيين محميين. وغالباً ما يُفترض أنّ الفلسطينيين مذنبون من دون أدلةٍ، ويُقبض عليهم من دون أوامر توقيف، ويُحتجزون من دون توجيه تهم أو محاكمة ويعاملون بوحشية في الحجز الإسرائيلي". كما أضافت أن السجن الجماعي الذي يتعرّض له الفلسطينيون "يخدم غرض قمع المعارضة السلمية للاحتلال، وحماية الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. وفي نهاية المطاف، تسهيل التعدّي الاستيطاني الاستعماري". ثم تقول إن القوة القائمة بالاحتلال تصوّر الفلسطينيين على أنهم تهديدٌ جماعيٌ "لتجرّدهم من صفتهم المدنية". وعليه، معظم؛ إن لم نقل جميع، الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، بل وخارجها، مدنيون، يعمل الاحتلال على أخذهم رهائن وأسرى، لمنعهم من مجابهة احتلاله وممارساته الإجرامية المستمرّة بحقّ شعب فلسطين وأرضها.
بناءً عليه؛ الواضح أنّ الاحتلال هو القوّة المعتدية على المدنيين الفلسطينيين تاريخيًا، عبر اختطافهم وإيداعهم في سجونه العديدة، أو عبر تطبيق نظام المعازل والحصار اللاإنساني بحقّ التجمّعات الفلسطينية في القدس والضفّة الغربية وقطاع غزّة، وهي جريمةٌ مستمرةٌ منذ بداية الاحتلال. لذا على أيّ مطالب تدعو إلى إطلاق سراح المدنيين والعزل أن تشمل إلزام الاحتلال إنهاء سجنه الفلسطينيين داخل المدن والبلدات الفلسطينية، بما يشمل قطاع غزّة، إلى جانب تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين المحتجزين داخل سجونه وزنازينه الرسمية وغير الرسمية.
يتعمّد الاحتلال تعطيل حركة إدخال المساعدات؛ الشحيحة أصلاً، إلى قطاع غزّة عبر إلزامه المركبات التي تنقلها بنقل حمولاتها من معبر رفح إلى معبر العوجا
كما أوضح الناطق باسم كتائب عز الدين القسام؛ أبو عبيدة، في كلمته في 16/10/2023، عن الملابسات التي أدّت إلى اعتقال بعض الأشخاص من حملة جنسياتٍ أخرى، والمتمثلة في صعوبة التدقيق في هوياتهم في أثناء احتجازهم في 7 أكتوبر، نظرًا إلى طبيعة العملية العسكرية وحيثياتها. كما أعلن عن عزم الحركة إطلاق سراحهم في أول فرصةٍ ممكنةٍ، إذ إنّ عدوان الاحتلال هو العائق الذي يؤخّر إطلاق سراحهم، إذ وصفهم أبو عبيدة بالمحتجزين أو الضيوف، في إشارةٍ إلى طبيعة تعامل كتائب القسام معهم إلى حين إطلاق سراحهم. وهنا أيضًا لا بدّ من التمييز بين المحتجَز والأسير، وعدم الانسياق خلف محاولات الاحتلال طمس الفروق بين المحتجَزين والأسرى من جنوده ومستوطنيه العزّل منهم والمسلحين.
الحصار والإبادة عبر التجويع
فرض الاحتلال الصهيوني حصارًا غير إنساني مستمرًا على قطاع غزّة منذ نحو 17 عامًا، ثم انتقل الاحتلال من حصاره هذا إلى جريمةٍ إضافيةٍ، إبادة سكان فلسطين الأصليين المقيمين داخل القطاع بطرقٍ مباشرةٍ سريعةٍ؛ عبر القصف المنهجي والمستمرّ والمستعر، وغير مباشرةٍ، عبر قطع الماء والكهرباء والغذاء والمستلزمات الطبية والوقود، وهي جريمةٌ ممنهجةٌ إضافيةٌ تضاف إلى جريمة الحصار، إذ يعني منع الحاجات الرئيسية من دخول قطاع غزّة، وبكل وضوحٍ، عزم الاحتلال على قتل كلّ المقيمين في قطاع غزّة؛ ممن لم تقتلهم قنابله، ببطءٍ شديدٍ عبر تجويعهم.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ إرغام المجتمع الدولي الاحتلال على السماح لبضع قوافل إنسانيةٍ بدخول قطاع غزّة يوميًا منذ 21/10/2023، لا يعدّ تراجعًا عن جريمة الاحتلال في إبادة المقيمين في القطاع عبر تجويعهم، وإفقادهم أدنى مستلزمات الحفاظ على حياتهم، بل تندرج في سياق إطالة مدّة تعذيب المقيمين في قطاع غزّة، وإطالة معاناتهم، فمجمل تلك المساعدات ليست سوى فتات لن يحدث فرقًا لميلوني شخص يقيمون في القطاع، كما وصفها المفوض العامّ لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطين (أونروا)، فيليب لازاريني.
ويتعمّد الاحتلال تعطيل حركة إدخال المساعدات؛ الشحيحة أصلاً، إلى قطاع غزّة عبر إلزامه المركبات التي تنقلها بنقل حمولاتها من معبر رفح إلى معبر العوجا، حيث يتحفّظ الاحتلال عليها لمددٍ مختلفةٍ، تصل في أحيانٍ كثيرةٍ إلى أكثر من 24 ساعة، بذريعة تفتيشها، ومن ثم يعيدها إلى معبر رفح بغرض إدخالها إلى القطاع المحاصر. بذلك يؤخّر الاحتلال دخول المساعدات، وهو ما تكشفه الفروق الشاسعة بين أرقام قوافل المساعدات التي عبرت معبر رفح، وأعداد المساعدات التي استملتها الجهات المعنيّة داخل قطاع غزّة.
يتحكّم الاحتلال بمجمل بنية القطاع الخدمية من قطاع الكهرباء والاتصالات والمياه، إلى جانب تحكّمه بالمنظومة المالية، عبر التحكّم بحركة الأموال من قطاع غزة وإليه
ثانيها؛ يتحكّم الاحتلال في نوعية المساعدات المقدمة لقطاع غزّة، بما يخدم جريمته الموصوفة دوليًا بالعقاب الجماعي والإبادة الجماعية والقتل الممنهج والبطيء، عبر منعه إدخال شتّى المواد الغذائية والطبية والمياه الصالحة للشرب والوقود. إذ يتحكّم الاحتلال بنوعية المساعدات وكمّيتها عبر تهديده الدائم بقصف أي قافلة لا يُشرف على محتوياتها، إذ يطبق إشرافه هذا وفق آليتين منفصلتين ومتكاملتين: الأولى، التنسيق مع المنظمّات الدولية والطرف المصري بشأن كلّ قافلة من قوافل المساعدات. وثانيها، عبر جنوده وموظّفيه الذين يفتشون كلّ قافلةٍ بعد وصولها إلى المعبر التي يتحكم به، قبل دخولها إلى قطاع غزّة المحاصر، حيث يعيثون فسادًا بها، ويصادرون ما يشاؤون منها، بعيدًا عن الرقابة الدولية والإعلامية، إذ لم تصدر الجهات الدولية المشرفة على عملية إدخال المساعدات تقارير تُثبت استلام قطاع غزّة كامل حمولة قوافل المساعدات التي خرجت من معبر رفح بعد تفتيش الاحتلال لها.
مسؤولية الاحتلال الكاملة
يحاول الاحتلال التنصّل من مسؤوليته الكاملة عن قطاع غزّة تحت ذريعة فك الارتباط الأحادي الجانب مع قطاع غزّة عام 2005، لكن هناك فرقا كبيرا بين فك الارتباط وإنهاء الاحتلال، إذ لم يعن فكّ الارتباط إنهاء الاحتلال بتاتًا، نظرًا إلى تحكم الاحتلال بكامل تفاصيل قطاع غزّة الحياتية، من حركة السلع والبشر، ومن التحكّم بحدود القطاع بما فيها البحرية، وصولاً إلى انتهاكات الاحتلال المتكرّرة داخل القطاع، وأهمّها فرضه منطقةً عازلةً على مسافة 1500 مترٍ من السياج الفاصل بين القطاع والمناطق التي يسيطر عليها الاحتلال، إذ تشكّل المنطقة العازلة 15% من مجمل مساحة القطاع، و35% من مجمل مساحة أراضي القطاع الزراعية.
إلى جانب ذلك، يتحكّم الاحتلال بمجمل بنية القطاع الخدمية من قطاع الكهرباء والاتصالات والمياه، إلى جانب تحكّمه بالمنظومة المالية، عبر التحكّم بحركة الأموال من القطاع وإليه. ويفنّد ذلك كله مزاعم الاحتلال بعدم احتلاله القطاع، وبالتالي، يفنّد مزاعمه وتنصّله من مسؤوليته الكاملة عنه، التي ردّدها معظم قادة الاحتلال العسكريين والسياسيين في الأيّام الأخيرة. كما تجدُر الإشارة إلى أن كلّ المنظمات الدولية والأممية بما فيها هيئات الأمم المتّحدة ومجلس الأمن تعتبر قطاع غزّة جزءًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويعتبر الاحتلال القوة القائمة بالاحتلال حتّى في قطاع غزّة، ويحمّله كامل المسؤولية عن أوضاع القطاع وسكانه تمامًا، كما يتحمل في سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يرد دوريًا في جميع البيانات الصادرة عن مفوض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها تقريره المقدّم في الدورة الـ 52 لمجلس حقوق الإنسان، الذي دان الاحتلال لانتهاكاته المتعدّدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها سياسات العقاب الجماعي، وفي مقدّمها الحصار اللاإنساني لقطاع غزّة.
فتح معبر رفح من دون التنسيق مع الاحتلال فعلٌ مقاومٌ، فالاحتلال لا يملك قانونيًا أيّ سيادةٍ على الأراضي المحتلة، لكن عليه التزامات عدة
من هنا؛ يعتقد الكاتب أنّ هناك ضرورة للتأكيد على مسؤولية الاحتلال الكاملة عن ظروف القطاع وأحوال قاطنيه، وبالتالي مسؤوليته عن تأمين احتياجات القطاع وقاطنيه من الغذاء والماء والوقود والمستلزمات الطبية بجميع حيثياتها. وهذا لا يتناقض مع قدرة مصر على إفشال جرائم الاحتلال، عبر رفض التعاون معه وفتح معبر رفح من دون العودة إلى الاحتلال.
فتح معبر رفح من دون التنسيق مع الاحتلال فعلٌ مقاومٌ، فالاحتلال لا يملك قانونيًا أيّ سيادةٍ على الأراضي المحتلة، لكن عليه التزامات عدة على اعتبارها سلطة قائمة بالاحتلال، وهو ما يشمل حركة المعابر، بما فيها معبر رفح. وبالتالي، وفي خضم حرصنا على كسر الحصار اللاإنساني لقطاع غزّة ولمجمل الأراضي الفلسطينية الأخرى، يجب ألا ننساق خلف مزاعم الاحتلال، ونساهم في تنصّله من مسؤولياته الكاملة بوصفها سلطة قائمة بالاحتلال على مجمل الأراضي الفلسطينية، وفي مقدمتها قطاع غزّة المحاصر منذ 17 عامًا. وعليه وفي سياق الضغط الشعبي والسياسي على النظام في مصر، علينا أن نحذر من الانسياق خلف خطاب الاحتلال الساعي إلى التملص من مسؤولياته سلطةً قائمة بالاحتلال. من هنا، نعتبر كسر مصر الحصار اللاإنساني الذي يفرضه الاحتلال في قطاع غزّة واجبا أخلاقيا وإنسانيا أولاً، وهو فعلٌ مقاومٌ تحرريٌ ثانيًا.
من هنا، وكون كسر الحصار فعلا إنسانيا وأخلاقيا ومقاوما وتحرريا، يعتقد الكاتب أن علينا الضغط المتواصل من أجل فرضه، وعلى دول الإقليم والعالم المساهمة في كسره، عبر الدعوة إلى تشكيل قوافل مساعدات إنسانية أممية تشارك فيها معظم دول الإقليم؛ يفضل جميعها، والعالم تحت إشرافٍ أمميٍ ودوليٍ لمحتوياتها، وتحت أعين الوسائل الإعلامية الإقليمية والعالمية وتغطياتها، من لحظة عبورها معبر رفح إلى حين وصولها إلى مجمل قطاع غزّة، بما فيها المناطق الشمالية منه، يقودها متطوّعون من كل العالم، وهو أمرٌ قابلٌ للتحقيق إن امتلك النظام الإقليم والدولي الإرادة الكاملة لتنفيذه، خصوصًا الدول التي تدين إرهاب الاحتلال وجرائمه المتواصلة، خصوصًا الحالية، وفي مقدمها جرائمه في قطاع غزّة، من الصين وصولاً إلى بوليفيا وكولومبيا وتشيلي، ومرورًا بتركيا وإيران ومعظم دول المنطقة العربية.
أولويّة استعادة الحقوق الفلسطينية
كثرت الدعوات الدولية لعقد مؤتمرٍ لحلّ القضية الفلسطينية في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، دعواتٌ كثيرةٌ أميركيةٌ وفرنسيةٌ وتركيةٌ وعربيةٌ وفلسطينيةٌ، انساق معظمها خلف الدعاية الأميركية المضللة والمتشعبة، التي تشمل جوانب كثيرةٍ منها إعادة العمل على تهميش الحقوق الفلسطينية لصالح الدعوة المتكررة لحلٍ مستحيلٍ غير قابلٍ للتحقيق وغير عادلٍ، يتمثّل في الترويج المتكرر لما يسمّى "حلّ الدولتين".
تعتبر معركة المفاهيم والدلالات من المعارك المهمة في فضح الرواية الصهيونية وفي التأكيد على الرواية الفلسطينية التاريخية، وعلى الحقوق الفلسطينية
ينطلق بعض هذه الدعوات من نيات صادقةٍ تجاه فلسطين وقضيتها وشعبها، لكنها دعواتٌ متسرعةٌ دفعها إجرام الاحتلال اللامحدود إلى التمسّك بخيطٍ رفيعٍ من الأمل الذي قد ينهي، أو يحد من هذه الجرائم، لكنها غفلت؛ بمعظمها، عن حيثيات القضية الفلسطينية وتفاصيلها، كما غفلت عن المعطيات والحقائق الميدانية، التي أكدت معظم التقارير الدولية مسؤولية الاحتلال عن تقويض حلّ الدولتين وشبه استحالة تطبيقه.
لكن وبعيدًا عن ممارسات الاحتلال التي تقوض وقوضت حلّ الدولتين، علينا الالتفات إلى الحقوق الفلسطينية بدلًا من الانغماس في طبيعة الحل، فالأولويّة لاستعادة كامل الحقوق الفلسطينية: حقّ العودة، وحقّ تقرير المصير، وحقّ التحرّر من الاحتلال الصهيوني الإحلالي والكولونيالي، والحقّ في التحرّر من نظام الفصل العنصري الصهيوني، والحقّ في فكّ الحصار وإنهاؤه كليًا ونهائيًا، والحقّ في إقامة الدولة الفلسطينية. هذه هي الأولويّات، بغض النظر عن اسم الحل، وطبيعته، والذي لن يحققه حلّ الدولتين.
من هنا، يجب التركيز على استعادة الحقوق الفلسطينية، بدلاً من اللهاث خلف سرابٍ أميركيٍ وصهيونيٍ تحت عنوانٍ خادعٍ اسمُه حلّ الدولتين. الصادم هنا أن هناك بعض الأصوات الدولية والفلسطينية التي بذلت جهودًا كبيرةً في السنوات الأخيرة من أجل فضح جرائم الاحتلال، ومن أجل التمسك بأولويّة استعادة جميع الحقوق الفلسطينية، ومن أجل فضح زيف حلّ الدولتين، والكشف عن استحالة تطبيقه ميدانيًا، بفعل ممارسات الاحتلال وجرائمه اليومية في أرض فلسطين، انساق قسمٌ منها في الآونة الأخيرة خلف الدعوة الأميركية لعقد مؤتمرٍ دولي لتطبيق حل الدولتين، على اعتباره الحلّ الوحيد للقضية الفلسطينية!
خاتمة
تعتبر معركة المفاهيم والدلالات من المعارك المهمة في فضح الرواية الصهيونية وفي التأكيد على الرواية الفلسطينية التاريخية، وعلى الحقوق الفلسطينية، كما تمثل الحجر الأساس في تعزيز الحركة العالمية الداعمة والمتضامنة مع شعب فلسطين وقضيته، وفي تعزيز المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، وفي فضح الاحتلال ومحاصرته دوليًا.