مظاهرات 11 /11 في مصر وحوار مع صديق ثائر
سألني صديقي الثائر: هل ستشارك في المظاهرات المقرّر لها الشهر المقبل 11/ 11؟. أجبت: لا. .. سأل: لماذا؟. أجبت: أولاً: الشواهد كما استطلاعات الرأي العام تؤكد أنه لن يُكتب لها النجاح لأسباب عديدة. ثانياً: رأيي دائماً أن المظاهرات بهذا الشكل لا تؤدّي، في نهاية الأمر، إلى نتائج إيجابية، والدليل هذه النتيجة التي وصلنا إليها الآن بعد 2011 و2013. كل الناس أصبحت تبدي الندم، إلا ما ندر من المنتفعين أو المغيبين. .. قال: لستَ إذاً مع التغيير. .. قلت: بالعكس، أودّ التغيير اليوم قبل الغد. .. قال: وكيف يمكن أن يحدث ذلك من دون النزول إلى الشارع، خصوصاً في البلدان التي ينعدم فيها الأمل بالتغيير من طريق الصندوق، أو بالطرق الديمقراطية؟
كانت إجابتي: أطمع فقط في أن يكون لدينا حرية تعبير، حرية الكتابة، حرية الإدلاء بالرأي، بمعنى أن تكون هناك صحافة حرّة، إعلام حر. حين ذلك سيتحقّق الهدف، سيتحقّق التغيير، بل ربما لن نكون، في هذه الحالة، في حاجة إلى تغيير، ذلك أن النظام الحاكم لن يكون مستبدّاً أبداً في وجود صحافة حرّة، لن يكون هناك حكم الفرد في وجود إعلام حرّ، لن يكون هناك ظلم ما دام الناس يعبّرون عن آرائهم بحُرية، ستختفي المعتقلات، سيختفي الفساد، ستختفي المحسوبية. بالتالي، لن تكون هناك حاجة إلى مظاهرات، ولا إلى تغيير.
إذاً، نستطيع القول إن الديمقراطية والحكم الرشيد والعدالة تصبّ جميعها في مصلحة النظام الحاكم، قبل أن تكون في مصلحة المحكومين. لن يكون الحاكم في حاجةٍ إلى كل عمليات التأمين على حياته التي نشهدها على مدار الساعة، وما تتطلبه من تكلفةٍ تلتهم نسبةً ليست قليلة من موازنات دول فقيرة، لن يكون نظام الحكم في حاجةٍ إلى كل هذا الإنفاق على الأمن بشكل عام. ستعود جماهير كرة القدم إلى المدرّجات، وما يستتبع ذلك من إثراء العملية الرياضية فنياً ومالياً، ستعود السياحة إلى عصرها الذهبي، وما يستتبع ذلك من ضخّ عملاتٍ أجنبية الدولة في أمسّ الحاجة إليها، سيعود رجال أعمال الداخل بأموالهم، كما المستثمرون من الخارج بمشروعاتهم، لتنشيط اقتصاد دولة على شفا الهاوية.
سألني صديقي: إذا كان الأمر كذلك، وإذا وافقتُك على ذلك، كيف، إذاً، نصل إلى هذه المرحلة من حرية الرأي والتعبير إذا لم ننزل أيضاً إلى الشارع لفرض هذا المطلب، ذلك أن الشارع هو المحرّك الأساسي في كل الأحوال. .. قلت: سؤال وجيه جداً ومعك كل الحق، وسأعتمد في إجابتي على الشارع أيضاً أداة رئيسية، ذلك أنني أرى أن هذا الحق يجب أن انتزاعه، انتزاعه صحافياً وتليفزيونياً وإذاعياً من خلال القائمين على المؤسّسات ذات الصلة. أما أن القائمين على أمر هذه المؤسسات قد استكانوا واستسلموا للوضع الراهن، فهذا يدلّل على أننا نستحق ما نحن فيه، بمعنى أوضح: يمكن القول، في هذه الحالة، إن هذا الشعب يستحقّ هذا الحاكم، أو هذا النظام.
الديمقراطية والحكم الرشيد والعدالة تصبّ جميعها في مصلحة النظام الحاكم، قبل أن تكون في مصلحة المحكومين
ولكن يظل الأمر بيد الشعب، يمكنه مقاطعة وسائل الإعلام كافة، يمكنه إرغامها وإجبارها على ذلك، من خلال مقاطعة الشراء والمشاهدة والاستماع، ثم مقاطعتها إعلانياً أيضاً، بالضغط على الشركات المعلنة، وذلك بمقاطعة منتجاتها إذا لم تستجب لمطالب الجماهير. يتعيّن في هذه الحالة على الكُتّاب من خارج الصحف، والضيوف من خارج الإذاعات والتليفزيونات، المشاركة في المقاطعة. يمكن الشعب فعل الكثير مما من شأنه تغيير السياسات الإعلامية، ذلك أن الشعب في النهاية هو المستهدف وهو الفاعل، وإذا لم يفعل الشعب ذلك، فهو يستحقّ الحاكم الديكتاتور.
اعتقدتُ الآن أن صديقي الثائر بدأ يغيّر فكرته، أو نظرته إلى المظاهرات طريقة وحيدة، أو وسيلة ناجعة، لتحقيق الهدف، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار الخسائر الناجمة عن هذه المظاهرات في ظل أنظمةٍ ديكتاتوريةٍ لا تتردّد في القتل والخطف والسجن والتنكيل، حتى بعائلات المتظاهر، غير مكتفيةٍ بالمتظاهر نفسه، بل وصل الأمر إلى التضييق على المعتقلين داخل معتقلاتهم، والمساجين داخل زنازينهم، لمجرّد الدعوة في الخارج إلى التظاهر! وما يستتبع ذلك من أمور لا علاقة لها بالقانون، ولا حتى بالإنسانية، بما يجعل مثل هذه المظاهرات عملاً عقيماً جملة وتفصيلاً، يُؤدي في كل مرة إلى زيادة أعداد المعتقلين والمقتولين ليس أكثر.
يجب أن نعترف أيضاً بأن المظاهرات أمرٌ غير محسوب، ولا محسوم العواقب، لا يستطيع أحدٌ التكهن بمجرياتها، لا يستطيع أحد التحكّم في مساراتها. تتحوّل، في معظم الأحوال، إلى أعمال عنف، أعمال تخريب، أعمال شغبٍ وبلطجةٍ وإراقة دماء، والعودة بنا إلى الوراء، من السهل اختراقها من جماعاتٍ ومنظماتٍ ذات أهداف مناوئة للدولة المعنية ككل، من السهل اختراقها حتى من أجهزة الدولة نفسها لتحويلها عن مسارها السلمي، ليكون ذلك مبرّراً لمزيد من القمع، وذلك من خلال من يسمون الآن المواطنين الشرفاء (البلطجية) على أقل تقدير، ومن خلال كتائب سرّية منظمة ومدرّبة في أحيان أخرى، تحت مسمّيات بلاك بلوك وأناركية ومندسّين ومخبرين وغيرهم.
في 25 يناير 2011، لم تسلم التجمعات السلمية من مؤامرت ودسائس من الداخل والخارج في آن واحد
شهدنا في العصر الحديث في مصر مظاهرات 18 و19 يناير 1977، التي أطلق الرئيس الراحل أنور السادات عليها "انتفاضة الحرامية"، وكيف أن هذه المظاهرات كانت أشبه بما يتناقل عن التتار، لم تترك أخضر ولا يابساً، كان عنوانها الرئيسي الحرائق في كل مكان، في الأبنية والمنشآت، في وسائل المواصلات، في الشوارع والطرقات، على الرغم من أنها كانت انتفاضة طبيعية، نتيجة ارتفاع أسعار السلع الأساسية. وفي 25 يناير 2011، لم تسلم التجمعات السلمية من مؤامرت ودسائس من الداخل والخارج في آن واحد، كانت سبباً في إزهاق أرواح وإشعال حرائق، وانتشار غير مسبوق للصوص والبلطجية، وانفلات أمني متعمّد أو غير متعمّد، إلا إنه في كل الأحوال ألقى بظلاله على المجتمع بعد مرور أكثر من عشرة أعوام، وكان ذلك أحد أسباب الإحجام الشعبي عن المشاركة في الدعوات المتكرّرة للتظاهر طوال الأعوام السابقة.
ما يؤكّد صحة وجهة النظر هذه (أو موضوعيتها)، عن أهمية الإعلام في تحقيق هدف التغيير، أن النظام الحالي في مصر كان يعي ذلك منذ اللحظات الأولى أهمية السيطرة على وسائل الإعلام. راح يسيطر بحزم على ما تحت يد الدولة، من خلال الاعتماد على ضعاف النفوس، حتى لو كانوا ضعاف الإمكانات مهنياً، بوضعهم على رأس المؤسّسات الإعلامية. وفي الوقت نفسه، اتجه إلى شراء المؤسّسات الخاصة من صحافة وتليفزيون، وجعل هذه وتلك تحت سيطرة الأجهزة الأمنية والسيادية، تُصدر تعليماتها بشكل يومي، بل لحظي، بكيفية التعامل مع الأحداث، بالتوازي مع إغلاق مئات من المواقع الإخبارية وغير الإخبارية إمعاناً في التغييب، مع إطلاق الشائعات هنا وهناك من خلال لجان وكتائب إلكترونية تلتهم كثيراً من المال ومن جهد الشباب الذي كان يمكن توجيهه إلى العمل والإنتاج.
الآن، أبحث عن صديقي الثائر لا أجده، بعد أن تخيّلت أنه بدأ يقتنع، أعتقد أنه تركني أتحدّث وذهب للمشاركة في المظاهرات، قد يكون معه حق، الأمر يستحق!