الاستقطاب والتشرذم وأكذوبة النخبة
أخطر ما يهدّد بنيان أي مجتمع، أكثر من أي شيء آخر، الاستقطاب والتشرذم. الانهيار الاقتصادي يمكن تداركه، الديون يمكن جدولتها، الفساد يمكن مواجهته، الغباء يمكن علاجه، إصلاح حال الخدمات والمرافق ممكن أيضاً، إلا أن حالة الانقسام في أي مجتمع هي مقدّمة الانهيار الحقيقي، مقدّمة الصدام الذي لا تُحمد عقباه، مقدّمة مواجهات غير محسوبة العواقب، مقدّمة لتدخلاتٍ خارجية لا تنتهي، باختصار: مقدّمة لخراب ودمار بلا حدود، نزوح في الداخل وهجرات إلى الخارج، كوارث من كل نوع ولون، ذلك أن المجتمع يصبح شيعاً وأحزاباً، يصبح جماعاتٍ وطوائف، نخر فيه الغلّ والحقد، الانتقام سيد الموقف، لا تنازل عن السيادة هنا والهيمنة هناك.
إذا تتبعنا الآن، في الدول المتخلفة تحديداً، ردود أفعال الشعب الواحد، أو الأُمة الواحدة، على مواقع التواصل الاجتماعي، في أي قضية كانت، صغيرة أو كبيرة، مهمّة أو هامشية، لاكتشفنا حجم الأزمة، حجم الفجوة، حجم الشقاق، لن نقول الخلاف، أو تباين الآراء، أو وجهات النظر، على العكس تماماً، حالة استنفار على مدار الساعة، حالة غليان، حالة تربّص، حالة الضبابية واضحة رغم بعد المسافات، رائحة الدخان تزكم الأنوف. ماذا لو كانت اللقاءات مباشرة وجهاً لوجه؟ ماذا لو أصبحت المواجهة على الأرض في أي وقت؟ ماذا لو التقى هؤلاء وأولئك في أيٍّ من الميادين لأي سبب وفي أي زمان؟!
حالة استنفار على مدار الساعة، حالة غليان، حالة تربّص، حالة الضبابية واضحة رغم بعد المسافات
دون مبالغة، نحن أمام كارثة ماثلة للعيان. بالتأكيد، هناك أصحاب مصالح يقفون خلف ذلك الذي يجري، ليس ذلك فقط، بل هناك من صنع هذه الأوضاع، هي نظرية ".. ومن بعدي الطوفان"، أو نظرية "فرّق تسُد". أصبحت حالة الاستقطاب داخل البيت الواحد، داخل الأسرة الواحدة. بالتأكيد، تطلّب الأمر جهداً كبيراً حتى أمكن الوصول إلى هذه الحالة حالكة السواد، إعلام، شائعات، لجان إلكترونية، دورات إعداد، أموال باهظة، خبراء ومتخصصون.. الأمر يستحق، من وجهة نظر المستفيدين طبعاً.
حكى لي أحد شيوخ النخبة السياسية المصرية، من ذاكرة ستينيات القرن الماضي، قال: "حذّرني والدي في ذلك الوقت من عدم التحدّث في الشأن السياسي أمام شقيقي الذي كان طالباً في الجامعة، فقد كان والدي يعتقد أن شقيقي جُنِّد للتجسّس علينا داخل المنزل"! إذاً، الكارثة قديمة، عالَم يتطور وآخر محلّك سِر، عالَم يتجه إلى الفضاء، وآخر يعود إلى الخلف، العقلية المتخلفة كما هي، لا تتطوّر بتطوّر العلوم، الاتهامات والشكوك أصبحت علانية، أزواج وزوجات، أشقاء وشقيقات، عن الأصدقاء وزملاء العمل حدّث ولا حرج.
النُّخب السياسية والثقافية في بلادنا أكذوبة
"فرّق تسُد" مصطلح عسكري اقتصادي، الأصل اللاتيني له "divide et impera"، ويعني تفريق قوة الخصم إلى أقسام متفرقة، لتصبح أقل قوة، وهي غير متحدة (لاحظ هنا أن الأنظمة ترى في الشعوب خصماً). وأعتقد أن معظمنا يعي "نظرية كيس الفئران" التي أطلقها ذلك الفلاح المسنّ، الذي كان يقلّب ذلك الكيس المليء بالفئران كل عدة دقائق. وحينما سُئل عن السبب قال: حتى تظلّ الفئران مشغولاً بعضها ببعض، تتصارع وتتقاتل، ذلك أنها إذا شعرت بالراحة سيستقر كل منها في مكانه، وتتفرّغون لقضم الكيس وتهرب.
دعونا نعترف: النُّخب السياسية والثقافية في بلادنا أكذوبة، لا ننتظر ضغوطاً من هؤلاء الذين لا يهمهم تطبيق ذلك المصطلح العسكري، ولا حتى قاوموا ذات يوم نظرية الفلاح الحصيف سالف الذكر، هي نخب مصالح شخصية وآنية، لعبت دوراً بارزاً، بقناعة ذاتية، في إحداث مزيد من الاستقطاب والتشرذم، أيديولوجية هذه النخبة وتلك مقدَّمة على مصلحة الوطن. لن تجد أصحاب إحدى الأيديولوجيات يطالبون بتطبيق قوانين حقوق الإنسان ومواثيقها على آخرين، ما داموا ليسوا من أتباعهم، لن تجد مثلاً نخبة اليسار يطالبون بالإفراج عن المعتقلين من ذوي التوجهات الإسلامية، كذلك لن تجد الليبراليين يدافعون عن حقّ التعبير عندما يتعلق الأمر بغيرهم من أيديولوجية اليسار، لن تجد الإسلاميين أيضاً يتحمسون لهؤلاء وأولئك.
هذه الممارسات العلنية في المنتديات والأحزاب، وما تسمّى الحوارات الوطنية، جعلت الاستقطاب يبلغ مداه في الشارع وعلى المقاهي وفي العمل وفي كل مكان، أصبح الغضب سيد الموقف، التنمّر في كل مكان، التراشق على مدار الساعة، ستفكّر كثيراً قبل كتابة "تويتة" أو "بوست" أو مقال، أو التعبير عن الرأي بأي شكل. يجب أن تتوقع ردود الافعال العنيفة، اللعنات ستطاردك من كل حدب وصوب من القارّات الخمس، هذه حقيقة، اللجان الإلكترونية أصبحت توجد في القارّات الخمس، ما بالنا بالداخل المأزوم.
نحن أمام مرضٍ مزمن، سيحتاج العلاج إلى وقت طويل، وجهد كبير. يحتاج إلى إرادة سياسية لا تتوافر في هذه الآونة
بالتأكيد، نحن أمام مرضٍ مزمن، سيحتاج العلاج إلى وقت طويل، وجهد كبير. يحتاج إلى إرادة سياسية لا تتوافر في هذه الآونة، وهو ما يجعلنا أمام كارثة بكل المقاييس، سيكتوي الجميع بنارها، ربما في مقدّمتهم من صنعوها، وهو ما يؤكّد أن الرهان خاسرٌ لا محالة، فقد غاب عن هؤلاء أن السلم الاجتماعي حجر أساس التنمية، الاستقرار أساس التقدّم، العدل أساس المُلك، التعاون المجتمعي نقطة البدء لأي إصلاح.
المثير أن حالة الاستقطاب في بعض البلدان العربية امتدّت من ذلك الانقسام والتناحر بين الجماهير إلى حالة استقطابٍ من نوع آخر في مواجهة المؤسّسات القريبة من السلطة، المؤسّسات التي حصلت بشكل خاص على تمييز من أي نوع، للعاملين فيها أو المتقاعدين منها، وهو تطوّر خطير في حد ذاته، من الممكن أن يكون متعمّداً أيضاً لإحداث مزيدٍ من الاستقطاب والشقاق، وهو أمرٌ كان يجب أن تفطن له تلك المؤسسات قبل غيرها، ذلك أنه لا يجوز بأي حال أن تكون هناك هوّة بينها وبين الجماهير، المفترض أن تستمد منها قوتها، بل وشرعية وجودها، وهو ما يؤكّد أن الأمر جد خطير على كل الأصعدة.