مطبّعون مع إسرائيل لا داعمون لفلسطين
صباح يوم الجمعة الماضي، وبعد ليلة الاعتداءات الهمجية من قوات الاحتلال الإسرائيلي على المسجد الأقصى والمصلّين فيه، كانت طائرة تستعد للإقلاع من مطار القاهرة إلى تل أبيب، تحمل فوجًا من المسيحيين المصريين لزيارة الأراضي المحتلة.
سيدات بسيطات من صعيد مصر يقودهن رجلُ دين في واحدةٍ من رحلات دينية، واضح أنها عديدة للأراضي المحتلة بدعوى ممارسة الطقوس الدينية.
من الواضح أن تآكلًا خطيرًا قد وقع فيما يخصّ المناعة ضد التطبيع في مصر، يتماشى مع اندفاع حكومي رسمي نحو الكيان الصهيوني، يتجاوز مفهوم التطبيع إلى التحالف والتعاون عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وهو ما يتجلّى في اتفاقيات الغاز والتنسيق العسكري في سيناء، والحفلات الجماعية التي ينظمها الصهاينة في أراضي سيناء وتحت سفح الهرم.
لم يكن هذا التوجّه الرسمي غائبًا منذ زيارة أنور السادات المشؤومة إلى الكنيست الإسرائيلي، وتوقيع "كامب ديفيد"، والتي بقيت أساس (وجوهر) العقيدة السياسية لنظام حسني مبارك، غير أن ذلك الاندفاع الرسمي كان يجد مكابح شعبية ودينية ونقابية تقف جدارًا صلبًا ضد اختراق مصر صهيونيًا بالكامل.
لكن هذه العقيدة تطوّرت واتخذت صفة القداسة مع نظام عبد الفتاح السيسي، وكل المكابح عطّلت والجدار الصلب أخذ في التآكل، ولم يعد بمقدور أحد أو مسموحًا له أن يمارس نشاطًا ضد التطبيع وإلا مصيره السجن.
في ذلك، قبل أقل من أسبوعين كان عضو مجلس إدارة اتحاد الكرة المصري وحارس المرمى الدولي والنائب البرلماني السابق ومذيع التلفزيون والراديو المستفحل بكثافة الحالي، أحمد شوبير، يحتفل على طريقته بقرار الاتحاد الدولي لكرة القدم بحرمان إندونيسيا من تنظيم كأس العالم للشباب لرفضها مشاركة فريق الكيان الصهيوني. شوبير وجدها فرصة رائعة لمصر لكي تحظى بشرف تنظيم البطولة واستضافة فريق الصهاينة.
الرحلات الجماعية للقدس المحتلة وبيت لحم، وفرحة شوبير الطفولية بإمكانية أن تكون مصر بديلًا جيدًا لرافضي التطبيع الرياضي، ليستا سوى مشهدين من سياق رسمي عام مشجّع على التطبيع، بل ويعتبره منتهى الوطنية، في مرحلةٍ باتت فيها المؤسّسات الدينية والاتحادات والنقابات أدواتٍ في يد النظام، تتحرّك في الاتجاه الذي يريد، ولعل الدليل الأوضح على ذلك زيارة رأس الكنيسة المصرية إلى القدس المحتلة في العام 2015، وبعدها نشطت رحلات المسيحيين إلى الأراضي المحتلة، بالمخالفة الصريحة للموقف الوطني الرائع للأنبا شنودة الرافض بصلابة زيارة المسيحيين الأراضي المحتلة بوصفها تطبيعًا لا يخدم سوى الاحتلال.
في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول 2021 أعلن المتحدث باسم هيئة الطيران المدني الإسرائيلي عن هبوط طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية "مصر للطيران" أول مرة في مطار بن غوريون قرب تل أبيب، في رحلة وصفها بأنها "سابقة تاريخية". وقال إن الشركة المصرية ستشرع في تسيير أربع رحلات جوية تحت رايتها إلى الكيان الصهيوني.
ومنذ ذلك الوقت، نشطت رحلات التطبيع الديني، إذ تنتشر إعلانات شركات سياحة الحج المسيحية في الصحف والمواقع الإلكترونية التي تتنافس على تقديم عروضٍ مخفّضة وتسهيلات بالسداد، وهي الإعلانات التي زادت كثافتها في الشهرين الماضيين، استعدادًا لمناسباتٍ دينيةٍ مختلفة.
صار عاديًا أن تنشر الصحافة المصرية أخبار هذه الرحلات، فلم تعد تجد فيها خرقًا لقرارات رفض التطبيع، فتنشر صحيفة الدستور، مثلا، خبرًا يقول "أعلنت عدد من الشركات السياحية إطلاق الحجز لموسم الحج المسيحي في القدس لعام 2023 والذي يتزامن مع عيد القيامة المجيد في أبريل المقبل. إذ أعلنت إحدى الشركات المنظمة لرحلة القدس، بالتعاون مع كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل طوسون كبرى، عن قيام رحلة القدس لعيد القيامة 2023".
لم تعد المسألة حصرًا على رحلاتٍ مصرية، إذ باتت أخبار زيارات أفراد ومجموعات من دول الخليج إلى الأراضي المحتلة متكرّرة، ويثار حولها الجدل ذاته كل مرّة. وأخيرا، وبالتزامن مع الاعتداءات العنيفة على المسجد الأقصى، كانت صور مواطن وتغريدات قطري من القدس وبيت لحم تملأ الواقع الافتراضي، والحجّة دعم الأشقاء الفلسطينيين وزيارة المقدسات الإسلامية، وهو الكلام المكرّر الذي تسمعه في كل مرة يكشف فيها الغطاء عن زيارات تطبيعية لمواطنين عرب إلى القدس المحتلة.
نحن هنا بصدد حالات تطبيع صريحة، مهما قيل إن هناك من فلسطينيي الداخل من يرحّب بهذه الزيارات، ويرى فيها دعمًا وتضامنًا، ومهما يعلنه هؤلاء من أننا لا يجب أن نترك الفلسطينيين وحدهم، فالشاهد أن أيًا من ذلك كله لم يوقف الهمجية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ولم يقدّم إضافةً تُذكر لصمود الشعب الفلسطيني، لكنه في المقابل حقّق ويحقق باستمرار فوائد عديدة لسلطات الاحتلال الصهيوني التي تتحكّم وحدها في إتمام مثل هذه الزيارات، لعل أكبر فائدةٍ منها اعتبار التطبيع الشعبي مسألة وجهات نظر تشتبك حولها الشعوب العربية.
الثابت أن رجال الدين الثقات، مسلمين ومسيحيين، حسموا هذا الموضوع مبكرًا، وانتهوا إلى تحريم زيارة القدس وتجريمها لاعتبارات كثيرة، وهناك تلال من الفتاوى والآراء بهذا الصدد منها لشيخي الأزهر السابقين عبد الحليم محمود وجاد الحق علي جاد الحق، وحتى عند شيخ الأزهر الحالي، وكذلك عند فقيه الأمة الراحل يوسف القرضاوي.
هناك أيضًا الموقف النبيل للأنبا شنودة الثالث رفضًا للتطبيع والذي تجسّده مقولته الخالدة "لن أدخل القدس إلا بتأشيرة فلسطينية على جواز سفري، ومع صديقي شيخ الأزهر وإخوتي العرب، ولن يكون هذا إلا بعد أن يزول الاحتلال عن القدس، ويصبح المسجد الأقصى تحت سيطرة السلطة الفلسطينية".
كل هذه الآراء المعتبرة تقطع بأن تبرير زيارة الأراضي المحتلة (بإذن سلطات الكيان الصهيوني وموافقته) بأنها في إطار دعم الفلسطينيين هو نبع من الكلام الفارغ من أي مضمون حقيقي، الذي لم تثبت له أية نتائج أو فوائد تعود على الأشقاء الفلسطينيين. وبالتالي، هو تطبيع مجاني، ذلك أن زيارة القدس، بتأشيرة من العدو الصهيوني، في أي وقت تطبيعٌ صريحٌ ومباشر.. وفي هذه الظروف الحالية التي تطحن فيها عظام المصلين بالمسجد الأقصى هو الجرم مضاعف.
مرّة أخرى، كل التطبيع جريمة في أي وقت .. في أي مكان، بصرف النظر عن فاعله، قطريًا كان أو مصريًا أو سعوديًا.