مصطفى الفقّي وذلك الأسد الأفريقي
أسوأ ما يمكن تقديمه لفلسطين، وأغلى ما يمكن منحه للصهاينة، أن تنطلق في تفسير استمرار روح المقاومة لدى الأجيال الجديدة من نقطة الممارسات البشعة التي يمارسها الاحتلال على الشعب الفلسطيني، وأن تبرّر عملياتٍ بطوليةً من نوعية ما أقدم عليه شهيد الحدود المصري، محمد صلاح، بأنه الردّ على وحشية الاحتلال ضد الفلسطينيين.
مثل هذه النوعية من التفسيرات والتبريرات يمكن أن تقود، في نهاية المطاف، إلى أنّ العداء للمحتل نابع من كونه قاسيًا وغليظًا ومتوحشًا بمواجهة أصحاب الأرض، بما يعني أنه لو تخلّى عن توحّشه وغلظته، وصار لطيفًا وناعمًا ومهذبًا، فأهلًا به وسهلًا، تطبّع معه وتتعايش معه، وترسل أحفادك للعب مع أحفاده والتعلّم في جامعاته، على غرار ما يذهب إليه مصطفى الفقي، الذي يقدّم نفسه نموذجًا للمثقف الخادم للسلطة في كلّ العصور، وعلى نحو ما يفعل إعلاميون يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا لفلسطين حين يستضيفون صهاينة ويدخلون معهم في جدلٍ عبر الأثير، ينتهي بأنّ كراهية إسرائيل نابعة من كراهية سلوكها وممارساتها مع الفلسطينيين.
يرفض مصطفى الفقي اعتبار شهيد مصر في موقعة الحدود مع فلسطين المحتلة بطلًا "أنا ضد ما فعله الجندي المصري على الحدود، لا نريد شيئا يعكّر صفو المنطقة والتعايش المشترك مع إسرائيل"، ثم يضيف في موضع آخر من مقابلة تلفزيونية "التابو بياخد أجيال وأحفادك بإذن الله هيتعاملوا مع أحفاد الإسرائيليين في محبّة وصفاء بشرق أوسط مختلف .. ندعو الله".
لا أظن أنّ أحفاد أيّ مواطن مصري عربي يمكن أن يقولوا وراء دعوة مصطفى الفقي "آمين"، حتى أحفاد الفقّي نفسه لا يتعاطون مع هذا النوع السام من حلوى التطبيع الملوّنة، التي يجيد صناعتها هذا الصنف من المثقفين الذين يُنكرون الواقع الحقيقي والفطرة السليمة التي يجسّدها فعل الشهيد محمد صلاح، ولا يرون، كما يرى الفقّي ومحترفون آخرون، أنّ المشكلة مع الاحتلال الصهيوني ليست في ممارساته، وإنما في وجوده من الأساس على أرضٍ عربية ليست له، وإنما لشعب فلسطيني، شقيق لكلّ الشعوب العربية. وبالتالي، لن ينتهي الخلاف مع المحتل إلا بانتهاء الاحتلال واسترداد الأرض، وليس بمجرّد تغيير سلوكياته، ليصبح احتلالًا ناعمًا.
تلك هي النقطة الجوهرية التي تقلق تجار السلام الإسرائيلي وموّزعيه ومروّجيه، قضية الأجيال التي تولد، وفي جيناتها كراهية الاحتلال واعتباره عدوًا استراتيجيًا حتى يزول وينقشع، ومن ثم فالجهد كلّه يتركّز على الوعي والتربية والتعليم من أجل إنتاج أجيال جديدة تصدّق تخاريف الجد مصطفى الفقّي، والإعلام الذي يعتبر نفسه مقاومًا لمجرّد أنه ردّ على ضيفه الصهيوني ولقّنه درسًا مؤداه: الجماهير العربية تكرهكم بسبب إجراءاتكم العنيفة وسياساتكم الوحشية، وليس بسبب وجودكم بيننا بقوّة السلاح وبقوّة التواطؤ من حكّامنا الذين يرتبطون بكم ويتحالفون معكم.
ما يجعلنا نطمئن على المستقبل أكثر أنّ هذا المنطق التطبيعي الفخم يتردّد بنص عباراته منذ عقود، بموازاة إجراءاتٍ عمليةٍ أخرى تطال مناهج التعليم والخطاب الديني والإعلامي، انعكاسًا لانقلابات استراتيجية هائلة لدى الأنظمة العربية. وبالرغم من ذلك، لا تزال الشعوب تلفظ ذلك كله، وتقدّم لفلسطين أجيالًا جبلت على محبّتها وكراهية العدو، بالفطرة.
لن يكون مستغربًا لو وجدنا مصطفى الفقّي ضيفًا على الكيان الصهيوني متحدثًا عن السلام وحلاوة ثقافة السلام قريبًا، أو مضيفًا لهم في مكتبة الاسكندرية التي يديرها، فالرجل لم يكن ضد التطبيع يومًا، لكنه ضد أن يمارسه غير المؤهّلين ثقافيًا وفكريًا، أمثال توفيق عكاشة حين زار السفير الصهيوني لدي الحكومة المصرية، فالرجل من المحاربين الأشدّاء من أجل "صفو المنطقة والتعايش المشترك مع إسرائيل".
مشكلة الفقّي ومن على شاكلته أنه لا يرى إلا بعيون السلطة، ولا يستطيع أن يستوعب أنّ الشعوب تسخر من كلّ هذا الهراء، إذ فيما كان سكرتير حسني مبارك السابق يروّج تطبيع الأحفاد، كان الاحتلال يطلق الرصاص الحي والغاز السام على الفلسطينيين في رام الله، مقرّ سلطة صديقه محمود عبّاس، وبينما كانت الحكومة المغربية تتعاون عسكريًا مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناورات "الأسد الأفريقي"، وتستقبل رئيس الكنيست الصهيوني، أمير أوحانا، ليقول "أنا سعيد وهذا نهار كبير"، كانت مجموعاتٌ من الشعب المغربي الشقيق تهتف في تظاهرات في الرباط "لا تطبيع مع المحتل، المقاومة هي الحل"، و"من الرباط وفلسطين شعب واحد مش شعبين".
هتاف الشعوب أصدق من ثرثرة المثقف ... وأبقى.