مصر وقطر وهنيّة وشينزو آبي
صحيحٌ أن التاريخ الحضاري للدول وثرواتِها وعديدَها من السكّان عوامل في تعيين مكانتها وأوزانها في إقليمها ومحيطها، وفي العالم أيضاً، غير أن هذا كلامٌ كلاسيكيٌّ ومتقادِم، وليس قولاً فصلاً في عموم الأحوال، أقلُّه عربيّاً، فالناظرُ في راهن مصر، الدولة ذات العمق الحضاري البعيد، والتي تحوز موارد بشرية هائلة، وإمكاناتٍ وكفاءاتٍ وأدمغةً عاليةً وفيرة، يحتاج إلى عيونٍ ميكروسكوبيّة ليصادِف لها وزناً فاعلاً مؤثّراً في الجوار، وفي الإقليم، وفي الفضاء العربي، على غير ما كانت عليه في أزمنةٍ ناصريةٍ (وغير ناصريةٍ) ولّت. وذلك التورّم في افتتاحيات الصحف القاهرية، والذي يخلَع على مصر ما ليس في حاضرها المعايَن، ليس في وسْعه أن يُخفي أن إثيوبيا تستضعف مصر، وأن إسرائيل لا تُلقي لها بالاً، عندما تُجهز على غزّة وناسِها ومحاورها ومعبر رفح فيها، بينما كان في وُسع الحكم في مصر، لو أنه صاحب إرادة سياسية حرّة، ويعرف حقّاً قيمة مصر في أمّتها، أن يُنهي حرب الإبادة في أسبوعها الثاني، لو لوّح بأن معاهدة السلام في كفّة ووقفَ الحرب في كفّة أخرى. لو فعل هذا أو شيئاً منه لردّ إلى مصر كثيراً مما تآكل من مهابتها وموقعها في وجدان الشعوب العربية، بل وفي العالم أيضاً. وهذا بيان الخارجية المصرية، في التعقيب على جريمة اغتيال إسماعيل هنيّة، لا يذكُر اسم الرجل وموقعه، ولا يعزّي فيه، ويكتفي بالتحذير من "مغبّة سياسة الاغتيالات" (!)، وكأن الذي اغتيل نائبٌ في برلمان المكسيك. وإذ تؤكّد لغةٌ كهذه، بشأن واقعةٍ عظيمة الوقْع على الشعب الفلسطيني (الشقيق على ما يجدُر التذكير)، المؤكّد المعلوم للمرّة المليون على الأقل، عن ركاكة الأداء السياسي والدبلوماسي لمصر التي قدّامنا، فإنها تأخذُنا إلى بيان الخارجية نفسها في تعزية حكومة اليابان وشعبها في "المُصاب الأليم"، بوفاة رئيس الوزراء الأسبق، شينزو آبي، في جريمة اغتيال في يونيو/ حزيران 2022. كما عبّر الرئيس عبد الفتاح السيسي عن خالص عزائه ومواساته، ودعا "المولى عزّ وجلّ أن يلهم أسرته الصبر والسلوان". ولئن كان في فائض هذه المشاعر حسٌّ دبلوماسيٌّ وسياسيٌّ رفيع تجاه اليابان وشعبها الصديق، فإن واحدَنا يغْشاه شعورٌ بالسخط من فرط ما بدا عليه انعدام الحسّ الإنساني والعروبي (هل نقول شيئاً آخر؟) في بيان الخارجية المصرية، بشأن رئيس وزراء عربي سابق، قضى أيضاً في جريمة اغتيال، اسمُه إسماعيل هنيّة، ينتسب إلى قطاع غزّة المجاور لجمهورية مصر العربية.
ليس لدولة قطر ذلك العديد السكّاني ولا العمق الحضاري لمصر، وليسوا، أم كلثوم ونجيب محفوظ وأحمد زويل وطه حسين، من أبنائها. وهي صديقةٌ وحليفةٌ للولايات المتحدة، وتستضيف قاعدة أميركية، غير أن بيان خارجيّتها في إدانتها "الاغتيالات السياسية، مهما كانت الدوافع والأسباب" تقدَّم بالتعزية برئيس المكتب السياسي لحركة حماس (المنصب الذي كان عليه الشهيد)، وبمرافقه الشخصي، إلى ذويه "ودولة فلسطين وشعبها الشقيق". وعندما احتضن ترابُها جثمان الشهيد، وعندما تقدّم أمير البلاد ووالده الأمير السابق المصلّين على روحه، وشاركا في التشييع المهيب، لم تكن قطر تمالئ إخواناً مسلمين، ولا تصطفّ مع "حماس" وتناهض حركة فتح، ولم تكن تحمل السُّلّم بالعرض، وإنما تضيف إلى ما تُراكمه في رصيدها من مكانةٍ وازنة وفاعلة، ونجاحاتٍ سياسية وإعلامية و... إلخ، على مستوياتٍ شعبيةٍ ورسمية، وهي التي تستقبل رئيس الموساد في وساطاتها من أجل هُدنٍ وتبادل أسرى ووقفٍ لإطلاق النار في غزّة. ومن المهم أن يُعرَف أن قطر التي بدت أنها أهل هنيّة وعزوة أسرته هي التي تنجح في منافسة استضافة كأس العالم، وتبطَح الولايات المتحدة في هذا، فيما تُحرِز مصر صفراً في منافسةٍ سابقةٍ على استضافة مثيلة، ثم أبهرت التظاهرة الكروية الكبرى العالم. وأمير قطر، الشيخ تميم، في مراسم جنازة شينزو آبي، والذي قدّم واجب العزاء في هذه الشخصية الرفيعة في قصر أكاساكا في طوكيو، هو نفسُه الذي شارك في صلاة الجنازة على إسماعيل هنيّة في مسجد محمّد بن عبد الوهاب في الدوحة.
ليس مؤدّى الكلام أعلاه مفاضلةً بين دولتيْن عربيتين، كبرى وصغرى، وإنما هو التذكير بما لا يحسُن نسيانُه، وموجزُه أنّ حُكماً في دولة كبرى يحدُث أن يُصيّرها صغيرة المكانة، وأنّ حُكماً في دولة صغرى يحدُث أن يجعلها عظيمة المكانة. وما عوملت به واقعة اغتيال إسماعيل هنيّة، ذكّرت بما عوملت به واقعةُ اغتيال شينزو آبي أم لم تفعَل، شاهدٌ جديدٌ على صحّة هذه البديهية.