فضيحة عربية وإهانة الحكومة اللبنانية نفسها
فضيحةٌ عربيةٌ بامتياز، تشترك فيها ثلاث دول: لبنان الذي ارتضت حكومته أن تصير أصغر مما نعرف عن صغرها ودونيّتها. تُضحكنا عندما تنتظر قراراً قضائياً يبتّ في أمر تسليم المواطن المصري، عبد الرحمن يوسف القرضاوي (54 عاما)، إلى الإمارات التي طلبته رسميا. تُضحكنا هذه الحكومة ليس لأن اللبنانيين هم أقلّ العرب ثقة بالمؤسّسات القضائية في بلدانهم، على ما عرّفنا المؤشّر العربي (يصدره سنوياً المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، وإنما لأن رئيس الحكومة (لتصريف الأعمال كما يجب ألا ننسى)، نجيب ميقاتي، أراد التغطية على الفضيحة التي ارتكبها، بتوصيةٍ ما من جهةٍ لها مسمّى قضائي، وقد استعجلها، ربما لتسبق جلسة مجلس النواب انتخاب (تزكية على الأصح) رئيس للجمهورية، حسمَت اسمَه أكثر من دولةٍ عربيةٍ وأجنبية. جاءت له هذه التوصية، ساعاتٍ قبل وصول طائرة إماراتية خُصّصت لنقل القرضاوي من بلدٍ سمّي بلد الحريات، في زمن ذهبي مضى، لمّا كان موئل معارضين عرب، إلى أبو ظبي التي قيل إنها وعدت ميقاتي بعدم المساس بالمصري المُختطف، ولا وصفَ يجوز غير هذا للرجل الذي "عبَر" بلبنان، عائداً من دمشق، ليُسافر من مطار بيروت.
ولكن، لماذا نستفظع سلوك الحكومة اللبنانية، الذي يبعث على السخط، وفي البال أن مواطنا ليبياً اسمُه هنيبعل القذافي (50 عاما)، محتجزٌ في بيروت منذ خطفه في دمشق قبل أزيد من تسع سنوات، قال أكثر من مسؤولٍ ليبيٍّ إن حركة أمل هي التي تسجنه، سيّما وأن القضاء اللبناني برّأه من أي تهمةٍ في أي قضية. وإذا جال في الخاطر أن الذنب الذي ارتكبَه هذا الرجل أنه نجلُ سيئ الذكر، معمّر القذافي، فإننا نصير أمام عبثٍ ليس في مستطاع مخيّلة صموئيل بيكيت أن تصل إلى تخومه. والراجح أن من العبث أن تُطالَب حكومة تصريف الأعمال في بيروت بنشر التهم التي "سوّغت" لها تسليم مواطنٍ مرّ بأراضيها إلى دولةٍ عربيةٍ لا يحمل جنسيّتها، هي الإمارات، الشريكة الثانية في الفضيحة الساطعة، والتي تترامى أرطالٌ من العجب أمامك إذا حاولتَ أن تخمّن "تهماً مريعة" اقترفها عبد الرحمن القرضاوي، وتضطرّ الدولة الخليجية الثرية إلى تسيير طائرة خاصة لتجلبه فيها، فيأتي إلى بالك أنه ربما يمثل خطراً عظيماً ماثلاً على أمن الإمارات وشعبها وزوّارها، غير أنك لا تُصادف من الرجل غير كلام في كلام، لا يستحسن صاحب هذه السطور كثيراً منه، من المُفزع حقا أن نتصوّر دولة في القرن الحادي والعشرين ترتعش من مثله، فتمارس ابتزازاً على دولةٍ عربيةٍ مستضعفة، وتستقوي عليها، من أجل أن تستعجل في استلام هذا المواطن غير الإماراتي. ويحدُث هذا في لحظةٍ عربيةٍ، انعطافيةٍ ربما، حطّم فيها الشعب السوري العظيم تجبّر نظام طاغيةٍ فاسدٍ مجرم، لم يجد غير الفرار من بلده، لينجو من عقاب الشعب المستحقّ. كأن أبو ظبي في قضية القرضاوي تُرسل حزمةً من الرسائل، أهمّها أن الدرس الذي صنعه الشعب السوري للأنظمة السلطوية لا يعني شيئاً للحُكم في الدولة الخليجية التي لا يتمنّى كل عربيٍّ لأهلها وناسها إلا الخير والأمن والأمان. ومن بين كثيرٍ تذكّر به "المرجلة" هذه على الشاب المصري والدولة اللبنانية أن ثلاثينياً بريطانياً، اسمه ماثيو هيدجز، حكمت عليه، في 2018، محكمة استئنافٍ في أبوظبي بالسجن المؤبد لارتكابه "التجسّس لأجهزة استخبارات أجنبية"، غير أن حكومة الإمارات استجابت لطلب بلاده الإفراج عنه، فكان هذا بعد ستة أيام من حبسه.
لا حاجة لفطنةٍ ليُعرَف أن الدولة الثالثة في الفضيحة المتحدّث عنها هي مصر، بلد المختَطف المسلَّم. لم يُعثر على ما يدلّ على أن حكومته معنيةٌ بأمر مواطنها هذا. كأن هذه الحكومة تستطيب أن تُهين نفسها ايضاً، عندما "تطنّش"، ولا تتذكّر أن عبد الرحمن يوسف القرضاوي مواطنٌ تابعيّته مصرية، ولو حمل كل جوازات السفر في كل الدنيا. لا تزيّد في القول إن السلوك المصري، الحكومي وبعضا من غير الحكومي، يقزّم مصر إلى قاعٍ لا يرضاه أي عربي لها.
انكتبت هذه السطور في دمشق، حيث فرحٌ سوريٌّ لا يوصًف، بخلاصٍ من طاغيةٍ ركيك. والمأمول أن لا ينكتب مثلُها في غضون أفراحٍ عربيةٍ أخرى مشتهاة.