مصر وطوفان الأقصى والتنافس الإقليمي على أدوار وظيفية

11 أكتوبر 2023
+ الخط -

عندما انهمر "طوفان الأقصى" مفاجئا الكيان الإسرائيلي والقوى الإقليمية والدولية، وهذه نقطة تميّزه الأساسية، أدّى إلى إرباك المشهد الإقليمي برمّته، وهو مشهد مشارك في الحصار على غزّة بشكل أو بآخر، وإن طالب رسميا بفكّه عنها في المحافل الدولية، سواء بانقسامه أو بالصراع على قيادته بين محور خليجي وآخر تقليدي، بل وبين أطرافٍ في المحور الخليجي نفسه. واهتمت الصحافة والإعلام بتطورات الأحداث والمواقف الدولية والإقليمية بطبيعة الحال، وتركّزت الاتصالات الدولية على مصر وتركيا وقطر والسعودية، لكن مواقف عربية وإقليمية عديدة تبدو باهتة، وغير مبرّرة، حتى بعد ثلاثة أيام من اندلاع الحرب، بالتسمية الإسرائيلية، فبرغم إعلان إسرائيل الحرب للمرّة الأولى منذ العام 1973، وصحيح أنها شنّت حملات عسكرية عدة منذ ذلك التاريخ، سواء في غزّة أو لبنان، وكانت تصف تلك الحملات بالحروب، ولكن من دون أن تعلن رسميا أنها في "حالة حرب" كما فعلت هذه المرّة، واستدعت مئات الآلاف من قوات الاحتياط. ورغم صدور عدّة بيانات دعم أميركية وأوروبية لها، باعتبارها تمارس ما يسمونه "حقّها في الدفاع عن نفسها"، إلا أن بيانا عربيا واحدا لم يخرُج بعد لدعم فلسطين والشعب الفلسطيني، وتبدو المواقف الفردية العربية في معظمها خجولة ومخجلة، مع استثناءات محدودة لمواقف أولية لقطر والكويت وعُمان، وإلى حد ما تونس والجزائر.

وهذه جامعة الدول العربية، وبينما يعلن العدو الحرب، وتتوتر الأوضاع على أكثر من جبهة عربية، وبعد مرور ثلاثة أيام على العملية، تجري مشاورات بشأن عقد اجتماع طارئ على مستوى وزراء الخارجية، لبحث سبل التحرّك السياسي بعد ما تسميها "أحداث غزة". قد يقول بعضنا: وماذا تملك هذه الجامعة غير هذا؟ والحقيقة أن الجامعة، على ضعفها، تملك أن تُحدِث ضجيجا، على الأقل بتجميع موقف عربي مؤثّر ورافض الاعتداء على سيادة اثنتين من دوله مباشرة، فلسطين ولبنان، ورفض القصف الغاشم لقطاع غزّة والفلسطينيين العزّل، بل ومُلزم لكل دول الطوق، بتقديم الدعم الإنساني والإغاثي على أقلّ تقدير. ومن ناحية أخرى، هي تملك حقّ رفع القضية على أجندة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وطلب اجتماعات طارئة لها. ونعلم جميعا حجم التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بل رأينا دولا في أميركا اللاتينية تدعم القضية تحت أروقتها أكثر من عدة بلدان عربية وإسلامية. لكن لا عجب، فالأمين العام الحالي للجامعة، أحمد أبو الغيط، صرّح عندما كان وزيرا للخارجية المصرية بتكسير عظام أي فلسطيني سيخترق الحدود في أثناء عملية الرصاص المصبوب.

صحيحٌ أن جامعة الدول العربية حينها كانت منقسمة أيما انقسام بين ما يسمّى محور الممانعة ومحور الاعتدال، لكن موقفا مصريا سعوديا كان مسيطرا عليها، وقاد إلى إدانة المقاومة من العام 2006 إلى 2020 بشكل واضح في معظم بيانات الجامعة في تلك الفترة. لكن هذا الانقسام يبدو أنه تلاشى بعد المصالحة الخليجية وإعلان النظام الرسمي العربي نصره على الانتفاضات الشعبية العربية، بموجتيْها في 2011 و2019. ورغم كثافة الاتصالات البيْنية العربية خلال الثلاثة أيام الأولى للحرب الدائرة حاليا، إلا أننا ما زلنا في مرحلة التشاور بشأن عقد الاجتماع.

هل تستفيق مصر، وتكون على قدر الدور الذي ينتظرها وتوسّعه إنسانياً وسياسياً، أم تظلّ أسيرة لتخوّفات تفقدها هذا الدور على أهميته وقدره وقدريّته؟

ما يهمنا هنا هو المشهد المصري الذي بدا فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي في أول أيام المعركة متابعا الموقف العام لتطوّرات الأحداث من مركز إدارة الأزمات الاستراتيجي، للوقوف على تطوّرات الأوضاع في قطاع غزة، وموجّها بتكثيف الاتصالات المصرية لاحتواء الموقف، ومنع المزيد من التصعيد بين الطرفين، وهي الاتصالات التي توالت، سواء مع وزير الخارجية الأميركي أو الرؤساء الفرنسي والتركي والإماراتي والعاهل الأردني وولي العهد السعودي والمستشارين الألماني والنمساوي ورئيس المجلس الأوروبي.

وبينما استغلّت إيران الفرصة، واتصل رئيسها بقادة المقاومة التي تدين بفضلٍ كثير في تطوير قدراتها التدريبية والتسليحية الذاتية لإيران، لم نسمع عن اتصالات مصرية عليا بقيادات حركة حماس بعد. ويبدو أن مصر اكتفت بإعلان الهلال الأحمر حالة الطوارئ في مستشفيات شمال سيناء. ولا يبدو الموقف التركي المنافس لمصر أفضل حالا، فهي تتصرّف فقط بوصفها دولةً قوميةً عضوا في حلف الناتو، وتحاول إظهار حيادها في موقفٍ لا يجوز فيه الحياد. وإذا قال قائل إنها تخشى قيودا أو عقوبات غربية، فلماذا إذن لم تخش تلك العقوبات والقيود عند تقديم الدعم الكامل لأذربيجان، حتى تحرير كامل أراضيها، رغما عن إرادة الروس والأميركيين والأوروبيين والإيرانيين؟، فهل يجب أن يكون الفلسطينيون أتراكا ليتلقّوا الدعم المطلوب على قدر الموقف ومقدار العدو المدعوم بقوة غربيا؟ أم أن لا ثمن لزعامة العالم الإسلامي؟

المؤسف هنا أننا أمام بيانات رسمية حيادية في دولة الطوق الرئيسية التي اعتدنا انتفاضتها أكثر من أي دولةٍ أخرى، وهبّتها الشعبية، سواء من نقابة الأطباء أو اتحاد الأطباء العرب أو المؤسّسات الأهلية المختلفة لتقديم القدر الأكبر من الدعم الإنساني في أثناء كل معركة في غزّة، أو حتى باحتجاجات شعبية كانت الكبرى قبيل العام 2013 في المدارس والجامعات والجوامع والشوارع، لكنها مكبّلة حاليا، وتقتصر فقط على تظاهرة محدودة داخل أسوار الجامعة الأميركية في القاهرة، بادر إليها أبناء النخبة المركزية المؤمنون ضد الاعتقال فقط، وهتافات في مدرّجات حرمت منها الجماهير طوال العشرية السوداء الحالية.

المزاج العام المصري مناصرٌ تماماً للقضية الفلسطينية، ولا يشوب انتصاره هذا سوى تنظيراتٍ أخلاقيةٍ أو مصلحيةٍ هنا وهناك، نخبوية محدودة ولا منطق لها

صحيح أن التعاطف المصري الواسع على مواقع التواصل الاجتماعي واكتساح هاشتاغات الدعم لفلسطين وتصدرها التريندات بمصر ثابت رغم معمعة الانتخابات ومعركة قوى المعارضة فيها، والتعاطف الواسع النطاق مع منفّذ عملية الإسكندرية ضد السائحين الإسرائيليين، لكن المجال العام ما زال مكبّلا ومحروما من حيويته، تلك الحيوية التي كنّا في نطاقها نرى مئات الملايين من الجنيهات وقوافل إغاثية محملة بالمعونات الطبية والغذائية تجمع من القرى والأقاليم على فقرها لدعم غزّة في أثناء عدوانات عدّة منذ عملية الرصاص المصبوب أواخر 2008 وصولا إلى 2012، والتي بلغت ذروتها حينها في مصر الثائرة التي أرسلت رئيس وزرائها ومسؤولين ووفودا شعبية وطبية من كل التيارات للدعم، واستطاعت أن تصل إلى فضل اتفاقات التهدئة على الإطلاق حينها.

قد يقول قائل إن اتخاذ موقف الحياد رسميا مفيد سياسيا، لكي تكون وسيطا مقبولا، وهذا مردود عليه، فيدرك الجميع في مصر أن هذا دور قدري بالنسبة لها بحكم الجغرافيا والتاريخ، قبل السياسة والمصلحة واعتبارات الأمن القومي، وحتى إذا أرادت التخلّي عنه لا يتخلّى عنها، وهي نفسها رغم انحيازها في 2012، إلا أنه تم استدعاؤها وتدخّلت وأنجزت صفقة كانت قابلة للحياة وللبناء عليها حال استمرار النظام.

كان نظام حسني مبارك يدرك أهمية ذلك الدور الوظيفي في عمليات التهدئة، وأهمية فك الحصار، سواء بالطرق الرسمية عبر المطالبة به أو عبر تحميل إسرائيل مسؤولية القطاع إنسانيا أو بشكل غير رسمي، عبر إدارة أجهزة الاستخبارات والأمن التابعة له للمعابر والأنفاق من دون إرادة حقيقية لهدمها أو تدميرها، بل الاستفادة منها محليا وإقليميا، وحتى وإن كان لذلك جوانب غير أخلاقية، إلا أنها كانت مفيدة على مستوى السياسة الإقليمية وداعمة للقضية الفلسطينية وغير مكلفة للنّظام كثيرا.

بل وربما يدرك النظام المصري هذا، سواء لتجنّب السخط الشعبي، لو للقدرة على ممارسة هذا الدور الوظيفي المهم بالنسبة لأي نظام سياسي في مصر منذ نشأة إسرائيل، فالمزاج العام المصري مناصرٌ تماما للقضية الفلسطينية، ولا يشوب انتصاره هذا سوى بعض تنظيراتٍ أخلاقيةٍ أو مصلحيةٍ هنا وهناك، وهي نخبوية محدودة ولا منطق لها. والعجيب أن إعلام "السامسونغ" يشير إلى تخوّفات من تنافس إقليمي لحرمان مصر من دورها الوظيفي، بالإضافة إلى تخوّفات مبالغ فيها من سعي إسرائيل لإزاحة سكان غزّة باتجاه سيناء، أو اقتحامات فلسطينية للحدود تحت ضغط العمليات هناك، فهل تستفيق مصر، وتكون على قدر الدور الذي ينتظرها وتوسّعه إنسانيا وسياسيا، أم تظلّ أسيرة لتخوّفات تفقدها هذا الدور على أهميته وقدره وقدريّته؟