عن خرافة أن المصريين لا يعملون

22 يونيو 2024

عمّال مصريون يحملون شاحنة بأكياس الفحم في قرية البستان في البحيرة (17/12/2023 Getty)

+ الخط -

يخرجُ، بين حينٍ وآخر، بعض مثقفي النظام في مصر، أو حتى بعض الأصدقاء والعوامّ، وبنيةٍ حسنة، يُذكّروننا بأنّ دولةً سُكانها أقلّ من ربع سكّان مصر ناتجها المحلي أضعاف ناتج مصر، وأنّ في مصر أكبر جهاز بيروقراطي في العالم، وغير هذين من الادّعاءات الشعبوية المحضة، متسائلين، لماذا لا يعمل المصريون؟... ويسوقون هذا مع اتهاماتٍ أخرى تتبع نهج ترك الحمار والتعلّق بالبردعة لإلقاء اللوم كاملاً على المجتمع وعلى المصريين جميعاً، وكأنّهم من يجب تغييرهم، لا الحاكم والحكومة والنظام، فهل هذه الادّعاءات حقيقية؟

تقول الأسطورة في أحد أمثلتها "يبلغ عدد سكّان اليونان حوالي عشرة ملايين ونصف مليون، وينتجون سنويا ما يعادل 190 مليار دولار، بينما ينتج سكان مصر الذين يقتربون من 110 ملايين 400 مليار دولار فقط. بعبارة أخرى، لو كانت مساهمة المواطن المصري في الناتج المحلي تُماثل مساهمة نظيره اليوناني فسيبلغ الناتج المحلي لمصر ما يقترب من تريليوني دولار". هذه فقرة صمّاء قد تُثير تعاطفنا مع قائليها، بغضّ النظر عن الدولة التي يضعون مصر في مقارنة معها، فالأمر لا يعدو كونه تصويراً للمصريين أنّهم لا يعملون، أو على الأقل لا يعملون بالشكل الكافي، وأنّهم غير منتجين، وبالتالي إلقاء اللوم كاملاً على كاهلهم في عدم حدوث التنمية، أو على الأقل النمو في الأرقام الخاصة بالاقتصاد الكلّي الذي لا يعنينا كثيراً هنا، فالنقد القيّم يكون لهذه المؤشّرات ومدى تضليلها وإخفائها الكثير فيما بين السطور، والدعوات العلمية لاستبدالها بمؤشّراتٍ أكثر عدالة وفعالية في القياس.

وتقول أسطورة أخرى إنّك عندما تمرّ على المقاهي سوف تشعر أنّ المصريين لا يعملون، وأنّ غالبيتهم عاطلون من العمل. فيما تشير أسطورة أخرى إلى الإنتاجية المتدنية رغم طول ساعات العمل أو حتى إلى البطالة المقنّعة، وذلك في استخدامٍ سيئ للأرقام دفاعاً عن مقولات تقليص البيروقراطية، أو حتى ادّعاء نيوليبرالة محضة، تدعم الخصخصة والتخلّص من تركة القطاع العام بإجراءاتٍ أكثر جذرية، وبسرعةٍ، ومن دون الأخذ في الاعتبار أيّة حقوق اقتصادية واجتماعية، أو اعتبارها ضريبة منطقية للإصلاح. وفي الحقيقة، لا ينبغي لهذه الادّعاءات والاختزالات أن تمرّ مرور الكرام، خاصة أنّنا نسمعها كثيراً في دوائر أصدقائنا المقرّبين.

لا يكلّف هؤلاء أنفسهم عناء البحث، حتى في الأرقام الرسمية المنشورة، فالرقم الرسمي لمتوسّط ساعات العمل الأسبوعية في مصر، وفق الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، هو 55 ساعة في 2021. وبالرغم من أنّه لا يجوز تشغيل الموظف فعليّاً أكثر من ثماني ساعات في اليوم أو 48 ساعة في الأسبوع، إلّا أنّ المصريين يعملون في الواقع أكثر من هذه الساعات من دون رقيب أو حسيب أو حتى من دون تعويضٍ مناسب. وبعضهم، وهم بالملايين، يعملون في أكثر من وظيفة لمجابهة التضخّم ومتطلبات الحياة التي لا تكفي لها الرواتب، لأنّهم فقط يريدون أن يعيشوا، ولو على حدّ الكفاف، فلا يلاحقون تبعات سياسات الإصلاح الاقتصادي التي تلقي بالملايين تحت خطوط الفقر والجوع، والتي لم يَستشر أحدٌ المصريين فيها. وتقرّ منظمة العمل الدولية بأنّ مصر ضمن أعلى الدول في ساعاتِ العمل. وتشير تقاريرها إلى وضعٍ سيئ لمصر فيما يخصّ معايير الضمان الاجتماعي والصحي وظروف العمل وبيئته، سواء في الحكومة أو القطاعين العام والخاص، ناهيك عن القطاع غير الرسمي.

مصر من أكثر البلدان تلقّياً للتحويلات في العالم

وإذا جئنا إلى التقاعد، فإنّ مثالاً حيًّاً قد يلخّص المسألة، ففي نقاشٍ لصديقٍ تركي مع والدي في العام 2014، وجّه له سؤالًا: متى ستتقاعد؟ فكان ردّ الوالد بأنّ العاملين في الزراعة في مصر لا يتقاعدون إلا بالموت. والحقيقة أنّك عند تأمّل هذه العبارة تجدها صحيحة لدى الغالبية الساحقة للمصريين في قطاعاتٍ كثيرة، فهم يعملون حتى الموت، وكثيراً ما تجد حارس الأمن أو صاحب الورشة والدكّان أو عامل اليوميّة الذي يداوم بعد أن يخرج على المعاش (راتب التقاعد)، وتجد في مصر من يبحثون عن عمل وأعمارهم فوق سنّ التقاعد، وهذا أصبح معتاداً للأسف. ويلتحق كثيرون منهم بأشغالٍ شاقة. ويُجاهد المتقاعدون المصريون من وظائف رسمية، سواء في القطاع الحكومي أو العام أو الخاصّ، للحصول على معاشاتٍ تساوي الحدّ الأدنى للأجور، وتبدو مطالبهم بعيدة كلّ البعد عن التحقّق في نظامٍ لا يستطيع ولا يريد إتمام تطبيق الحدّ الأدنى للأجور المقرّر رسميًاً في القطاعين العام والخاص. ويجري هذا كلّه في سياقٍ أُنهيت فيه فعاليّة العمل النقابي، وأصبح مستأنساً تماماً، حيث يعجز الجميع عن المطالبةِ بالحدود الدنيا من مطالب لا علاقة لها بالسياسة من قريبٍ أو بعيد، وتسهل شيطنة القائلين بها للأسف، ناهيك عن تصنيفها بمطالب فئوية. وبين حين وآخر، ينفرد النظام بالتنكيل بالتنظيمات النقابية شبه المستقلة، أو التي يصعد من أبنائها شخصٌ ليس على هوى النظام السياسي.

ولا يرى هؤلاء أنّ مصر من أكثر البلدان تلقّياً للتحويلات في العالم، وأنّ المصريين العاديين تماماً، حينما تضعهم في نظامٍ ودولةٍ وسياقٍ، يحفظ لهم حقوقهم، تجدهم يعملون وينتجون ويبدعون ويرتقون إلى أعلى المراتب. وهم لا ينسون وطنهم ويساهمون في تنميته، بل وتقول الأرقام الرسمية إنّهم، ورغم عدم رضا غالبيتهم عن السياسات الاقتصادية المتبعة، يزيدون التحويلات تلقائيّاً في أثناء الأزمات الاقتصادية المحلية. ورغم تزايد التضييقات والقيود عليهم في بلدان المهاجر، ورغم تقصير الدولة المصرية في حقّهم، سواء بسوء الخدمات المقدّمة لهم أو ارتفاع أسعارها وطول الإجراءات وارتفاع تكاليف التحويلات الرسمية.

ملايين المصريين يعملون في أكثر من وظيفة لمجابهة التضخّم ومتطلبات الحياة التي لا تكفي لها الرواتب لأنّهم فقط يريدون أن يعيشوا

برغم أنّ النقاش الاقتصادي العالمي يطرح أفكاراً كبرى تتعلّق بالعمل وعلاقاته، وهناك من يدافع عن تطبيقها فوراً، مثل تقليص أسبوع العمل إلى 15 ساعة أو حتى ثلاثة أيام في الأسبوع، فتح الحدود أمام تدفق العمالة دوليّاً، ودخل أساسي عام لكلّ المواطنين أو إدخال ساعات الانتقالات ضمن حدود ساعات العمل وضمان توفير وسائل انتقال آمنة ومريحة، إلّا أنّ مصر لا تزال بعيدة عن هذا النقاش، ويتقبل مواطنوها أفكار العمل الهشّ والمؤقت، ويعمل أكثر من 90% من الشباب في وظائف غير رسمية، وبالتالي، لا يحصلون على أيّة تأمينات اجتماعية أو صحيّة، ثم يحدّثنا هؤلاء إنّ المصريين لا يعملون.

لن تأتي هذه السطور على كمٍّ من السنوات الضوئية التي يحتاجها الداخلون الجدد لسوق العمل لتأمين مسكن أو تحقيق قدر ما من الاستقلال المادي عن العائلة، وتكوين عائلة جديدة، بكلّ ما يتطلبه ذلك من تجهيزات، في ظلّ عادات مترسّخة، فهي أفكارٌ تبدو أقرب إلى النيوليبرالية وخدمتها، رغم أنّ مجتمعاتنا واقعة تحت تأثير تلك الأفكار.

وعندما تردّ على هؤلاء بأنّ كثيرا من تلك المجتمعات المحكي عنها تتميّز بوجود الدولة، بل وبقايا دولة رفاه ونظام سياسي مُنتخب وخطط تنموية، والمواطن الذي ينتج أكثر من وجهة نظرهم، وبلديات منتخبة وتحترم رأي المواطن، وتقدّم له نقلاً عامّاً جيّداً وشواطئ وحدائق وخدمات عامة صحية وتعليمية مجانية، بينما ينتج المصريون للمليونيرات لكي يراكموا ثرواتهم، وكيف ننتج أكثر وهناك شبكات مسيطرة على جميع القطاعات، وليس من مصلحتها أن ننتج بالأساس؟ سيقولون لك الصين فعلتها ومن دون ديمقراطية وحريّات، وسيتناسون ما فعلته الدولة الصينية من خطط وبرامج لخفض الفقر ورفع الرواتب والأجور في كلّ القطاعات، ومن ثوراتٍ زراعيةٍ وصناعيةٍ وثقافية... ومع الأسف، يحدث هذا التناسي أو التواطؤ مع الاستبداد، لأنّ عديدين من هؤلاء مردّدي تلك الشعبويات أبناء اللحظة الراهنة والدفاع عنها وعن مكتسباتهم الشخصية سيظلون يدافعون عن السراب والوهم القائل إن المصريين لا يعملون.