مصر وسورية: ليس في يناير ما يخيف
بحسابات المنطق ومعادلات الكيمياء وخلاصات التاريخ، ليس ثمّة ما يدعم احتمالية استنساخ التجربة السورية في مصر. ومع ذلك، يبدو أن ما جرى في سورية أشعل كل الأضواء الحمراء، وأطلق صفارات الإنذار في الدوائر الرسمية والإعلامية، وكأن التغيير يقف بكامل أسلحته على الحدود.
لا أحد في مصر يريد تغييراً بقوة السلاح، أو يفكر بهذا مجرد تفكير، ليس لأن القدرة منعدمة فقط، بل كذلك لأن هذا النمط من التعاطي مع حالة استبدادية متجذّرة لا يجد ما يقابله في حالة الثورة المصرية التي عرفت مساراً مغايراً وناجحاً، سياسيّاً بالطبع، قبل أن يتحالف ضدّها كل الأوغاد ويقتلونها في ذروة تألقها، فضلاً عن أن جمهور هذه الثورة الحقيقي لا يزال متمسّكّاً بقيمها وطبيعتها، بوصفها إبداعاً جماعيّاً يتجلى في السلوك الحضاري، وفي عذوبة نحت الشعارات، وفي بشاشة الهتافات، وفي إرادة التلاحم والتعايش بين المختلفين في الفرع، المتفقين في الأصل، المتمايزين في الشكل، المتّحدين في الموضوع وعليه.
والحال كذلك، ليست مفهومة هذه الحالة من الهلع التي تسكن الخطاب السياسي والإعلامي لأهل السلطة في مصر هذه الأيام، وهي الحالة التي كانت تنتابهم في سنوات مضت، كان فيها بعض النبض في الجماهير، وبعض القدرة على الجهر بالحقّ في الحلم من جديد أو استعادة الحلم القديم، فكان الإفراط في التخويف من العنف والإرهاب والربط بينهما وبين الثورة وإرادة التغيير، وهو الأمر الذي تصوّرنا أنه توقف تماماً بعد نجاح القبضة الأمنية الباطشة في أن تكسر عظام الحالمين بالديمقراطية والحرية، والإعلان عن القضاء على الإرهاب في سيناء، والتصالح مع "أهل الشر" السابقين، حيث كانت عملية استدعاء "حرب الشائعات" التي تتهمهم السلطة بتحريكها عدواً بديلاً للإرهاب المحتمل (2013) والمناخ التشاؤمي (2017)، فأصبح إعلام التواصل الاجتماعي، أو إعلام المواطن العادي، هو الخطر الذي توجه له هذه السلطة مدفعيتها.
ماذا حدث، إذن، لكي ترتدّ السلطة الخائفة إلى الوراء، وتعيد مضغ ما كانت قد توقفت عنه سنوات، لتحذّر، مجدّداً، من خطط نشر الأكاذيب في مصر، وتتهم مواقع التواصل الاجتماعي بأنها عادت تستخدم في تحريك الأوضاع داخل مصر، من خلال ما وصفها عبد الفتاح السيسي قبل يومين لدى زيارته وزارة الداخلية بأنها "خطط يتم وضعها في هذا الإطار منذ سنوات، والأمر مستمر". ثم يقول "ده مش حاجة داخلية.. لأ.. الشغل ده بيتعمل من أجهزة مخابرات.. من حقّ الناس إنها تفكر إنها تخرّبنا ما زال يتردّد حتى الآن قدر كبير وضخم من الكذب والشائعات".. ...
هل هو شبح الحالة السورية، فقط، الذي يفجر هذه الموجة من هستيريا الخوف والتخويف، أم أنه يناير على الأبواب، محمّلاً بذكريات الحلم الذي ولد في شتاء عام 2011 وعرف شيئاً من النجاح السلمي العابر في مصر، قبل أن تقتله الأيدي السوداء، وعاد الناس يستدعونه، بعد أن رأوا الثورة السورية، بعد أن دفعوها لحمل السلاح، تتوغل عسكريّاً في المدن، حتى أسقطت بشّار الأسد؟
المؤكد غير مرّة أنه استباقاً لشهر يناير من كل عام، يستدعي السيسي شبح الثورة الجريحة، مدفوعاً بيقين أنها لا تزال على قيد الحياة، هناك في مساحة ما من الوجدان العام، وأنها ستنبعث من تحت رماد حريقها، مثل العنقاء، فيكون الحل هو التخويف منها باعتبارها مصدر الشرور ولعبة أهل الشر.
أما وأن يناير هذه المرّة يأتي وقد سقط بشّار الأسد في سورية، فهذا يضاعف مساحات الهلع ويفاقم لوثة العداء له، مع أنه لو كان ثمة عقل أو حكمة لكان من الممكن أن يكون ما جرى فرصة هائلة للتصالح مع مجتمع شبع ظلماً وحزناً وفقراً ويأساً من إمكانية الوصول إلى تلك "الحتة التانية خالص" التي وعدوه بها عشرين مرّة ولم يحصل سوى على مزيد من الأوهام والوعود الكاذبة بحياة محترمة.