مصر من القطاع الاستراتيجي إلى المستثمر الاستراتيجي

19 فبراير 2023

معمل خياطة في مدينة العاشر من رمضان شمال القاهرة (29/7/2018/ فرانس برس)

+ الخط -

خلال الأسبوع الماضي، تداول روّاد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر خبراً مفاده بيع 32 شركة من الشركات المملوكة للدولة المصرية إلى ما سمّي، في نص الإنفوغراف المتداول "مستثمر استراتيجي". توقف الجميع عند الرقم الخاص بعدد الشركات، وأحياناً عند أسماء بعض الشركات، وبعض آخر عند عملية البيع والخصخصة، بشيءٍ من الحزن والأسى على أهمية القطاعات أو إرث الدولة المصرية وهياكلها الاقتصادية التي يجري تفكيكها. لكن ما استوقفني هنا هو ابتداع الحكومة المصرية المصطلح الذي تمّ تداوله تحت عنوان الخبر والصورة في غالبية الصحف المصرية، وهو مصطلح "مستثمر استراتيجي"، وهو في الحقيقة مصطلح غريب عجيب لم نسمع عنه من قبل في أيّ من كتب الاقتصاد أو المالية العامة، وربما لم ولن تجد له أثراً في أي من قواميس الاقتصاد، قديمه وحديثه.

الحقيقة أنّ هذا المصطلح يتداوله في مصر منذ قرابة العام وزراء المالية والتعاون الدولي وقطاع الأعمال العام ورئاسة الوزراء، وإعلام وصحافة "السامسونغ"، بشكل يجعل هذا المصطلح من صكّ واختراع هؤلاء حصراً، ولهذا يستحقون عليه براءة ملكية فكرية، فالمتداول، مصرياً وعالمياً، منذ عقود، فكرة القطاعات الاستراتيجية التي يجب أن تحتكرها، بالكلية أو على الأقل تستحوذ على الحصة الكبرى فيها، الدولة، لأنها تتعلّق بمسائل رئيسية ومهمة لحياة المواطنين. لكن أخيرا، لم يعد للمواطنين، ولا للقطاعات، أيّة أهمية في مواجهة محاولات سد الفجوات التمويلية التي تخلقها المشروعات الشخصية للزعيم الذي نزل بنا إلى القاع، حيث يرى أنّ افتتاح "كوبري"، وربما دورة مياه عمومية في أيّة منطقة، مشروعاً قومياً يجب أن يختم بمهره واسمه، ويوضع في قائمة الإنجازات التي يجب أن يعيّر الإعلام بها المواطنين، ليلجم أيّة تساؤلات من قبيل أين تذهب الأموال؟

يتعدّى الأمر هنا الجدل الناصري أو الاشتراكي الليبرالي التقليدي، فنحن إزاء حكومةٍ تعتمد وزارة قطاع الأعمال العام فيها، مهمتها "الوطنية" في تصفية هذا القطاع عبر تسييله وبيعه في البورصات المحلية والعالمية وسيلة لجذب الاستثمار. وهنا نتحدّث عن تصريحات للوزير انتقلت بالقطاع من كونه وزيراً لقطاع إستراتيجي تحافظ عليه أغلب الحكومات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلى كونه وزيراً يبحث عن المستثمر الاستراتيجي وسيلة للتخلّص من القطاع عبر تجميع أكبر عدد من الشركات الناجحة في شركاتٍ قابضة، ثم طرحها مرّة واحدة، وبطرق غير شفافة على بعض المستثمرين الذين يسميهم الوزير استراتيجيين، ويتم تعديل قوانينها وأحكام قضائها لتيسير التحايل على القضاء وأحكامه لصالح المستثمرين، عبر قصر الطعن على العقود التي تقوم بها أجهزة الدولة مع مستثمرين أجانب على أطرافها فقط، وهو قانونٌ تمّ سنه منذ سنوات ولكن تمّ تأييده، أخيرا، بقرار من المحكمة الدستورية ليحجب عن المواطنين أيّة إمكانية للرقابة على المال العام وتصرّفات السلطة فيه.

الأمر هنا أيضاً استراتيجي من زاوية واحدة فقط، أنّ الحكومة تركز كلّ استثماراتها مع عدّة أشخاص، ويكون التواصل مع كبار المسؤولين الحكوميين، وليس لأيٍّ من المواطنين أو مؤسسات صنع القوانين والسياسات وتنفيذهما أي علاقة، إن وجدت مثل هذه المؤسّسات أصلاً، فالمستثمر رجل استراتيجي يحل مشكلاته بالاتصال بالرئيس أو رئيس الحكومة أو الوزير المختص، هذا إن تنازل، وهؤلاء يجب أن يبقوا لمدة من الزمن لضمان مصالح هذا المستثمر الاستراتيجي.

هل هناك حكومة في العالم، أقدمت في ظلّ أزمة صحية عالمية، على بيع أكبر مصانع الأدوية والمستشفيات لديها؟

معضلة هذا الطريق أنه لن يعزّز مؤشرات الشفافية ومكافحة الفساد التي تطالب بها تقارير المؤسسات المالية الدولية ويطالب بها المستثمرون الدوليون، بل على العكس، هي ستزيد معدلات الشك وانعدام الثقة بالإجراءات الحكومية المصرية، كما يثير الأمر تساؤلات حول القيمة المضافة التي سيكتسبها الاقتصاد المصري عند بيع قطاعات ناجحة فيه، سواء لمستثمرين محليين أو أجانب. فهل لا يمكن لهؤلاء المستثمرين فتح مشروعات منافسة أو جديدة بجوار هذه المشروعات، وبالتالي فإن طريقهم الوحيد للتعامل في مصر هو الاستحواذات والاحتكارات؟؟

لا أحد يفتري على الحكومة في هذا، فما نسوقه هو من المؤتمر العالمي الذي عقده رئيس الوزراء في منتصف مايو/ أيار 2022، وتصريحات لوزير قطاع الأعمال العام، محمود عصمت، وكذلك فإن وزير المالية محمد معيط يؤكّد في أكثر من تصريح أنّ الحكومة المصرية تستهدف جذب استثمارات أجنبية مباشرة بنحو 10 مليارات دولار سنوياً خلال السنوات الأربع المقبلة من خلال مزيد من التنشيط والتفعيل لبرنامج الطروحات الحكومية واستهداف وجذب استثمارات إضافية في مجالات ومشروعات متنوعة، بما يسمح بإطلاق إمكانات ضخمة لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى داخل مصر عبر مستثمرين استراتيجيين، ويتزايد استعمال هذا المصطلح منذ إطلاق وثيقة ملكية الدولة المصرية العام الماضي، وما تلاها من تعديلات قانونية لتوسيع صلاحيات صندوق مصر السيادي، والذي هو الأداة الرئيسية حالياً لتسييل أصول الدولة المصرية وبيعها.

هل هناك حكومة في العالم باعت مصانع الغزل والنسيج والأسمدة، بل ومعامل وشركات البذور والتقاوي، في قلب أزمة غذائية محلية وعالمية، ويعاني شعبها من معدّلات فقر وسوء تغذية مثل مصر؟ هل واصلت أيّة حكومة في ظلّ أزمة صحية عالمية عمليات بيع أكبر مصانع الأدوية والمستشفيات لديها، للقطاع الخاص، سواء كان محلياً أو عالمياً، ورفضت تسعير الليلة في غرف العناية المركزة خلال أزمة كورونا؟ هل قامت حكومة ما ببيع وتفكيك أكبر مصانع الحديد والصلب في قلب فورة توسّع عمراني وعقاري تقوده وتروّج له الدولة نفسها؟ هل هناك دولة بحجم مصر وموقعها الاستراتيجي، باعت حكومتها أرصفة موانئها وخدماتها اللوجستية، بينما تستورد قرابة 70 بالمائة من احتياجاتها من الخارج؟

المستثمر رجل استراتيجي يحل مشكلاته بالاتصال بالرئيس أو رئيس الحكومة أو الوزير المختص، هذا إن تنازل

عشرات الأسئلة حول قطاعات أكثر من أساسية، إذا تجاوزنا حتى الأسئلة التي تبدو رفاهية ثقافية بالنسبة لبعضهم بشأن قطاعات ثقافية وتاريخية تمثل جزءاً من هوية المصريين، ويجرى اليوم تسييلها وبيعها عبر صندوق سيادي يفقد السيادة معناها ومضامينها.

علينا أن نتساءل أيضاً أنه رغم السياسات المتبعة في بيع وتسييل القطاع العام في مصر عبر سياسات الخصخصة في السنوات الثلاثين الماضية، هل أتت كلّ هذه السياسات ثمارها؟ وإن كانت لم تؤتها فلماذا نعيد السياسات نفسها بوتيرة أسرع وإجراءات أقلّ شفافية ونتوقع نتائج أفضل؟ وإن كانت الحكومة تروّج نجاح تلك السياسات، فلماذا تعاني الآن من نقص الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وابتعادها تماماً عن المستهدفات وتخوض حملات إعلامية شعواء على دول هؤلاء المستثمرين؟

وإذا ما تجاوزنا مسألة الدستورية والقانونية، فعلينا أن نتساءل أيضاً: أيّة استراتيجية وأي تخطيطٍ في تركيز علاقات الحكومة والدولة المصرية مع هذا المستثمر الاستراتيجي أو ذاك، أو حتى مجموعة من المستثمرين من دولة أو دولتين أو بضع دولٍ على غرار ما يجري على قدم وساق خلال السنوات العشر الأخيرة؟ ألم يقرأ هؤلاء أبداً عن مخاطر ظاهرة تركّز الشركاء في الاقتصاد والتجارة الدولية والعلاقات الدولية، وما يخلقه هذا من عوامل تبعية بنيوية، وفي بلد كمصر لا يليق بها أبداً دور التابع للأطراف، هذا إن لاقت بها التبعية لمركز النظام الدولي؟