مصر إذ تعاقب الفلسطينيين بدل إسرائيل
لا تكفُّ إسرائيل عن توجيه الإهانات البالغة لمصر، والمسّ بسمعتها، والتعدّي على أمنها، في حين تردُّ الأخيرة بإعلان التمسّك باتفاقية السلام معها، وأكثر من ذلك، للأسف، تفريغ غضبها وتوجيه انتقامها نحو فلسطينيي قطاع غزّة المحاصرين والمنكوبين. إنّها ليست مصر القاطرة التي يرتجيها العرب، بل المقطورة التي شَلَّت فاعليتها طوعاً وساهمت في شلّ الجسد العربي. "اتفاقية السلام مع إسرائيل خيار استراتيجي"، وأيّ مخالفات لها سيتم تناولها عبر آليات، منها لجنة اتصال عسكري. هذا ما صرّح به وزير الخارجية المصري سامح شكري، في 12 مايو/ أيار الحالي، أي بعد خمسة أيام من إعادة إسرائيل احتلال الجانب الفلسطيني من معبر رفح، جنوبي قطاع غزّة، وإحكام سيطرتها على ثلثي محور فيلادلفيا (محور صلاح الدين)، واحتلاله، والذي يُفترض أن يكون منطقة عازلة بين إسرائيل ومصر، حسب اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978. غير أنّ اتفاقية السلام هذه، التي تتمسّك بها القاهرة، تبدو كأنّها أحادية الواجبات والالتزامات، في حين تدوسُها إسرائيل بقدميها كلّما رأت مصلحة لها في ذلك، وتجعل منها سيفاً مُسلّطاً على رقبة "المحروسة" في ظلّ سكون وخنوع معيبين.
ليس المثال السابق استثناءً في سيرورة العلاقة المصرية - الإسرائيلية، بل هو المعيار السائد عقوداً، ولكنّ قباحته تجلّت أكثر في الأشهر الثمانية الماضية، أي؛ منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. في 22 من الشهر الحالي (مايو/ أيار)، اتّهم وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، مصر بمنع عبور ألفيّ شاحنة مساعدات إنسانية إلى غزّة، لأنّ لديها قضية سياسية بخصوص معبر رفح. وفي اليوم التالي، غمز وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، من قناة القاهرة وهو يحثّها على السماح بتدفّق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، متغافلاً عن جرائم إسرائيل المتوحّشة فيه، وعملها المنهجيّ على تجويع شعبه. وكانت الكارثة في الردّ المصري على هذه الاتهامات والإهانات، إذ اشترط وجود طرف فلسطيني في معبر رفح لتسلّم المساعدات. وبحسب شكري، فإنّ الوجود العسكري لإسرائيل، والعمليات التي ينفّذها جيشها، ظروف تعرّض سائقي الشاحنات للخطر، ما أدّى إلى توقّف عبور المساعدات الحدود.
المشكلة في المنطق المصري، هنا، أنّه يناقض الحجّة السابقة التي كان يتذرّع بها قبل أن تحتلّ إسرائيل معبر رفح وتسيطر عليه عسكرياً قبل ثلاثة أسابيع. ونُذكّر، هنا، بما قاله رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصري ضياء رشوان، مطلع العام الجاري، ردّاً على اتهام محامي الدفاع عن الدولة العبرية أمام محكمة العدل الدولية كريستوفر ستاكر مصر بأنّها تتحمّل مسؤولية دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة لا إسرائيل. كان ردُّ نشوان حينها أنّ "سيادة مصر تمتدّ فقط على الجانب المصري من معبر رفح، بينما يخضع الجانب الآخر منه في غزّة لسلطة إسرائيل الفعلية"، رغم أنّه، حتَّى ذلك الوقت، كان معبر رفح يخضع لسلطة فلسطينية مطلقة (!) الحقيقة المُرّة أنّ السلطة في مصر شريكة في جريمة حصار قطاع غزّة وتجويع أهله، ليس فقط منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بل منذ 2007، أي منذ فرضت إسرائيل حصاراً وحشياً عليه، وعلى أكثر من مليونين من سكّانه. ويعلم الجميع كيف أنّ آلاف شاحنات المساعدات الإنسانية ما زالت متكدّسة منذ أشهر على الجانب المصري من المعبر، دع عنك الابتزاز الذي يتعرّض له المنكوبون الفلسطينيون عبر إرغامهم على دفع آلاف من الدولارات لكلّ شخص يريد الخروج من القطاع. هذا لا يقلّل من جريمة إسرائيل ووحشيّتها، ولكنّه، للأسف، يجعل طرفاً عربياً شريكاً معها، وظلم ذوي القربى، لا شكّ، أشدُّ مضاضةً.
ليست مصر القاطرة التي يرتجيها العرب، بل المقطورة التي شَلَّت فاعليتها طوعاً
يوم الاثنين الماضي، استشهد جندي مصري بنيران إسرائيلية في رفح. كان الردُّ الرسمي المصري الأولي مُخزياً، وهذا تعبير مُلطّف. "القوات المسلحة المصرية تجري تحقيقاً بواسطة الجهات المختصّة حيال حادث إطلاق النيران بمنطقة الشريط الحدودي برفح مما أدّى إلى مقتل أحد العناصر المكلّفة بالتأمين". كان هذا تصريح المُتحدّث الرسمي باسم القوات المسلّحة المصرية. ليس لـ"العنصر" المصري، هذا، ولم يستحقّ، على الأقلّ، الإشادة به شهيدَ واجبٍ عسكري (!) أمّا ثالثة الأثافي فكانت في الاتفاق اللاحق بين القاهرة وتل أبيب على ترك قضية الجندي المصري "لتموت بهدوء"، بعيداً عن الضجّة الإعلامية، وحتَّى لا تتحوّل إلى أزمة استراتيجية بين البلدَين. بعد ذلك بيومين (الأربعاء 29 مايو/ أيار الحالي) فقط، استكملت إسرائيل احتلال محور فيلادلفيا، وأصبحت قوّاتها المسلّحة مقابل مصر، في خرق بيّن لاتفاقية السلام بينهما. مرّة أخرى، أعلنت القاهرة أنّ اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية ولدت لتبقى، ولكن، سيكون هناك ثمن مترتّب على ذلك الانتهاك الإسرائيلي: مزيد من العقوبات على الفلسطينيين الذين يتعرّضون لجريمة إبادة في قطاع غزّة. "لن يكون الإسرائيليون شركاءنا إلى سكان قطاع (غزّة)، وندرك أنّ إسرائيل تحاول ابتزاز مصر من خلال الزاوية الإنسانية... من أجل نقل المساعدات إلى غزّة". هذا ما قاله مسؤول مصري كبير. بمعنى آخر، لا ترغب مصر الرسمية بخوض معركة ديبلوماسية مع إسرائيل لإرغامها على احترام التزاماتها بموجب اتفاقية السلام بينهما، في وقتٍ لا تبدي فيه أيَّ شعور إنساني نحو أشقاء لها يئنّون تحت وطأة سياستها وظلمها، رغم أنّهم يتعرّضون لحرب إبادة إسرائيلية هزّت ضمير العالم بأسره. أبعد هذا الخزي خزي؟