"مسيح الخلافة" .. رواية الهول السوري

29 اغسطس 2022
+ الخط -

اتصفت أعمال روائية كتبت في أثناء الثورة السورية بالانفعالية والاندفاع والتعجّل والأسلوب التقريري التسجيلي على حساب الشكل الفني، وهذا بالضبط ما نجا منه الروائي السوري، أنور السباعي في روايته "مسيح الخلافة"، الصادرة عن دار سامح للنشر في السويد (2022). تمكّن، بإتقان بالغ، من التحكّم بمقاليد اللعبة السردية، فلم تخل من الحيل الروائية المحكمة الكفيلة باستدراج القارئ للتورّط كليا في فضاء النص. وجاء البناء الروائي متينا ممسوكا مقنعا موجعا من دون افتعال أو تكلف. يبدو الروائي هنا مثل جرّاح صبور هادئ بارع يُمسك بالمشرط بحرفية عالية، ويغور عميقا، حيث مصدر الألم. يجتثه من جذوره، مستعينا بالبوح المنفلت المتحرّر من الأوهام والأحلام والأحكام المسبقة. 
وفي عبارةٍ هي بمثابة مفتاح أساسي في النص، يصف فيها الراوي الحياة في السويد، فيقول "شيء ما خاطئ في هذه البلاد، الطرق نظيفة خالية من الجثث!". يحيل الروائي المتلقي، وبأقل الكلام، إلى الهول السوري بتفاصيله الغرائبية العنيفة، ويخوض في التحوّلات الجذرية الكبرى التي عصفت بالأفراد، فالتبست هوياتهم وانتماءاتهم وقناعاتهم، بعد أن جرى اغتيال الثورة السلمية وعسكرتها، فانقلب الوضع لصالح النظام الذي لعب على ورقة التناقضات الطائفية، ما أتاح لدولة الخلافة الإرهابية التمادي في غيها وتجبّرها. ويسلط الضوء على عذابات الأبرياء والثمن الباهظ الذي تكبّدوه، وهم يقتلون تحت وابل البراميل المتفجّرة التي أجهزت على أحلامهم بغد أقل إيلاما. 
من خلال حكاية فادي وجيلان، يمضي أنور السباعي في الكشف عن دواخل واقع مأساوي، عاشه المواطن السوري، الرازح بين بطش النظام وإجرام تنظيم الدولة الإسلامية الذي نكّل بالأبرياء وسبى النساء وقطع الرؤوس أمام الكاميرات. ملابسات عديدة أدّت إلى تحوّل فادي، المسيحي المسالم عازف التشيلّو المرهف المصاب بفقدان الذاكرة الانفصالي، إلى "خطاب" جزار التنظيم المنوطة به مهمة حزّ الرقاب، حماية  للدولة الناشئة التي ستفتح الدنيا من الرّقة وتعلي راية الإسلام! (أصبح آلة قتل، سيفا أبكم استله الله على أعدائه). وقد نسي كل ما يتعلق بحياته السابقة في حلب، طالبا جامعيا ينتسب إلى الطبقة الثرية، مواليا للنظام، معجبا بالرئيس مصدقا أكاذيبه عن حماية الأقلية المسيحية. كان حبه العلوية جيلان الذي انتهى بالزواج، رغم اختلاف طائفتيهما، بداية التغيير الذي قلب حياته. تسعى جيلان إلى الوصول إليه بعد أن اعتبر مفقودا مجهول المصير، إثر مشاركته في مظاهرةٍ أسفرت عن سقوط ضحايا على يد جيش النظام، وقد تعرفّت عليه من خلال مقطع فيديو بثه "داعش"، وهو  يقطع رأس أحد الضحايا. عزمت على العثور عليه وإنقاذه من براثن "التنظيم الأكثر تطرّفا في الكوكب". تصل إليه معرّضة نفسها للخطر سبية اغتنمها التنظيم، وعرضها مع أخريات من كرديات وأيزيديات غنائم حرب وملك يمين متعة  للمجاهدين، لتكون من نصيبه. تعيش في بيته المتقشّف في الرّقة باعتبارها جارية نصرانية، اسمها سلمى. في البداية، لم يتعرّف عليها، ولم يتذكّر أنها كانت زوجته التي أحبها. تعمل جيلان على إعادة ذاكرة الحبيب المشوّشة التي اغتالتها الصدمات المتعاقبة، ليصحو على واقع مرعب جعل منه سفّاحا بمحض المصادفة. وبمساعدة ميشيل الذي يتضح أنه الراوي العليم لتلك الأحداث، ينجحان أخيرا في الهرب إلى خارج البلاد. يقول في جملة تختصر المشهد الكابوسي كله: "نظرنا خلفنا فرأينا مشهدا ملونا بجميع الوان الجحيم، رايات كثيرة تتنازع الأفق خلفنا".
يحتلّ الحب مساحة كبيرة في الفضاء الروائي، ويعوّل عليه الكاتب تطهرا وأملا وخلاصا. وتظهر المرأة ثائرة قوية فاعلة شريكة متخطّية لسؤال الأنوثة ومعاناتها في المجتمعات الشرقية، وقد غيرت الثورة مفاهيمها وقناعاتها ووعيها أهمية دورها "فلم تعد الثورة موقفا أخلاقيا فحسب، بل أصبحت ضرورة وجودية وواجبا إنسانيا". 
يقودنا أنور السباعي، في روايته الملحمية، إلى أتون حربٍ عبثيةٍ تجلت فيها وحشية الصراع السياسي، وبذاءة التوظيف الديني المشبوه، ومعاناة الأفراد الذين تعرّضوا للقتل والاعتقال والتهجير، وذلك  كله ضمن نص فلسفي تأملي عميق، ولغة مكثفة متحرّرة من فائض الثرثرة وسرد سلس شائق. وبدون أدنى مجاملة، يمكن القول إن "مسيح الخلافة" هي الرواية الأكثر نضجا في مقاربة المأساة السورية من مختلف جوانبها بكثيرٍ من التجرّد. تحية إلى أنور السباعي في منفاه الذي من بعض فضائله أنه جعل الصورة المتشظّية شديدة الوضوح، لا لبس فيها.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.