مسدّس من البلاستيك
لا أحد يستطيع أن ينكر إعجابه بالشابة اللبنانية سالي حافظ التي اقتحمت أحد المصارف بمسدس من البلاستيك، مهدّدة بحرق نفسها، ما لم تحصل على المبلغ الذي أودعته في المصرف، فكلنا بوصفنا مواطنين نشعر بالقهر والذل والظلم من أننا أصبحنا رهائن للظروف السيئة التي تمرّ بها بلادنا، وكلنا غرقى بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بنا وتزداد قسوة يوماً بعد يوم، مع عجزنا عن إيجاد مخرج منها.
تطلّ علينا في رواية "الجريمة والعقاب" شخصية نسائية اضطرّت إلى أن تضحّي بشرفها من أجل أن تطعم عائلتها وهي شخصية الفتاة "سونيا"، والتي جسّد شخصيتها ديستوفيسكي تجسيداً رائعاً حين وصف المرّة الأولى التي عادت فيها إلى بيتها بعد أن مارست البغاء، لكي تؤمن طعاماً لأخواتها الثلاث وزوجة أبيها المريضة، وكيف قابلتها زوجة أبيها باكية في صمت واحتضنتها، وقد أدركت ما قامت به من أجل أن تُنقذ حياتها.
سمعنا كثيراً عن تلك القصص المؤلمة والموجعة لفتيات اضطررن إلى الانزلاق إلى هاوية الرذيلة من أجل أحبّتهن، وتعاطفنا مع هذا الفعل المشين غير المبرّر يشبه كثيراً تعاطف الرهائن مع محتجزهم. وحسبما أطلق علماء النفس على هذه الظاهرة اسم "متلازمة استوكهولم"، وقد جسّدها عادل إمام تجسيداً رائعاً في فيلم "الإرهاب والكباب"، حيث فرضت عليه المصادفة أن يصبح زعيماً لمجموعة من أشخاص يحتجزون آخرين في أكبر مؤسسة حكومية مصرية، وسرعان ما يتعاطف معه الرهائن ويقرّرون حمايته حين يكتشفون أنهم مثله ضحايا للحكومة والفساد والفقر والقهر.
خطفت الشابة اللبنانية سالي حافظ قلوبنا وجذبت أسماعنا وأبصارنا، فتتبعنا كل كبيرة وصغيرة في حياتها، فتعرّفنا إلى هدفها النبيل، والذي من أجله لم تقرّر بالطبع أن تسلك مسلكاً مشيناً مثل "سونيا" في رواية ديستوفيسكي مثلاً، وكأن بيع جسد المرأة المسلك الذي تعتقد بعض النساء أنه الأقصر لإنقاذهن وأحبتهن من العوز والفقر، وهو أسلوب دفاعي عاجز ضارب في القدم، وقرّرت أن تقوم بعمل خارق يتطلب شجاعة وقلباً من حديد، حين خططت أن تقتحم المصرف الذي أودعت فيه مبلغاً. ومع رفض إدارة المصرف، وبناء على قرارات الحكومة بسبب الوضع الاقتصادي، حصول المودعين على أموالهم، وبمساعدة عدة أشخاص آمنوا بعدالة قضيتها الإنسانية، وهي إنقاذ شقيقتها من الموت بمرض السرطان، فقد اقتحمت المصرف وهي تشهر مسدّساً من البلاستيك مخصصاً للأطفال، معلنة كفرها بمفهوم الدولة والعدالة الاجتماعية والقضاء والقانون.
كنا وما زلنا ولن نتوقف عن التعاطف مع سالي حافظ، وقد سبق أن أقدم عدة أشخاص على فعلتها، وتلت ذلك عدة اقتحامات أيضاً لمصارف لبنانية. وفي تحدّ واضح، وكأن هؤلاء جميعاً قد أحرقوا كل مراكبهم، ولم يعد لديهم ما يخسرونه أو أنهم هيّأوا أنفسهم لكل الاحتمالات من الخسائر، ولأن المال يعادل الروح، فإن رغبة هؤلاء باسترداد أموالهم المودعة، سواء كانوا بحاجة إليها مثل حالة سالي حافظ أو خوفاً من أن تستولي عليها الحكومة الضاربة في الانهيارات الاقتصادية، ففي النهاية هؤلاء قد طبقوا المبدأ الذي سارت عليه سالي حافظ، وهو "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة".
تثير دهشتك وتستحق احترامك تلك الشابة الرقيقة التي لا تتوقع إطلاقاً أنها قد تقدم على هذا العمل، والذي قد لا تفلح به العصابات المتخصّصة بسرقات البنوك، ولكن يبدو أن مفعول "متلازمة استوكهولم"، والذي تفيد الدراسات بأن 8% من الرهائن يتأثرون بها، قد ساعد في نجاح العملية المخطّطة والمدبرة لاقتحام البنك.
الفعل الذي قامت به سالي حافظ يُعرف بجنحة استيفاء الحق بالذات. وفي هذه الحالة، تكون العقوبة مخففة ولا تستوجب السجن. وفي حال تم القبض على الفاعل، يتم الإفراج عنه في غضون أيام قليلة، وبضمان محل إقامته، ومعزماً على اتباع قاعدة مهمة لأجدادنا وآبائنا وهي الاحتفاظ بالأموال "تحت البلاطة".