مزيد من أفيون الشعوب
يتحول أيّ شيء إلى أفيون، حين يُخدّر أعصاب أصحاب الحقوق ويحول دون مطالبتهم بها أو يدفعهم إلى التسليم بأنّ نهب حقوقهم جزءٌ من طبائع الحياة، وأنّ الخضوع لصاحب السلطة تديّن أو وطنية أو قيمة أخلاقية في ذاته. تدلّ خبرات الدولة المصرية في "أفينة" المجال العام على إمكانية تحويل أيّ شيء إلى أفيون فعّال في تخدير الشعوب، وتركيعهم، وتحويلهم قروداً صغاراً تتقافز حول القرد الكبير في دولته، كما يشير المثل المصري الشهير. وفي تجربة السّجال بين مركز تكوين "التنويري" ونقّاده من "المحافظين"، على تعدّد أماكنهم وأدوارهم الدينية، نموذج واضح إلى درجة الإمْلال، ورغم ذلك "شغّال".
لا تصنع الدولة المصرية تيّاراتٍ، لا دينية ولا سياسية ولا فكرية، إن جازت نسبة الفكر، أيّ فكرٍ، إلى موظفي خدمة عملاء "سامسونغ"، سواء كانوا مشايخ يوتيوب أم متنوّري البيرة والتوابل. إنّما تستخدم الدولة الموجود، على قدر المطلوب، وعلى قدر ما تحتمل "الخامة". وحين تكون المُدخلات بهذه الرداءة، من المُتوقّع أن تكون المُخرجات فضلات، تدلّ عليها رائحتها، من دون الحاجة إلى اللجوء إلى نظرية المؤامرة، فهي أكثر جدّية من هذا السيرك "القومي".
يعلن مركز تكوين عن وجوده وسط حرب إبادة غزّة، التي يحضر فيها النظام المصري بدور لا يقلّ "وطنية" عن دور مركز تكوين في القضاء على الإرهاب. ولكن، يبدو أنّ غياب التقدير هو حظّ الدولة المصرية و"تكوين"، معاً، وأنّ قطاعاً كبيراً من المصريين ليسوا وطنيين بالقدر الكافي، يسعون إلى تدمير بلادهم مثل ما "دمّرت" حركة حماس قطاع غزّة، ودفعت نتنياهو، "مضطرّاً"، إلى إبادة أهله. لا أحد يشعر بـ "تكوين"، فهي خبر باهت وسط مذابح ومجازر وحروب تهدّد الأمن القومي المصري، الذي لا يَشعر بالتهديد، مثلما لا يشعر المصري "الظلامي" بـ "تكوين"، يحتاج الأمر إلى "زفّة"، يضع أحدُهم، مصادفة طبعاً، زجاجة بيرة في "كادر" واحد مع مؤسّسي "تكوين"، ويلتقطها، بـ"الخطأ" طبعاً، من أربع زوايا. يعلن مشايخ مقاومة الإلحاد على مواقع التواصل الاجتماعي أنّ "تكوين" أوّل منصّة لنشر الإلحاد صراحة، كما يعلن مشايخ الفضائيات و"يوتيوب" و"فيسبوك" و"إنستغرام" اتحادهم في مواجهة "تكوين"، ويؤسّسون بدورهم "تحصين". ويدعو عمرو أديب إلى مناظرة حامية بين الأزهر و"تكوين"، ويمثّل الأزهر الملاكم عبد الله رشدي، الذي أعلنت مشيخة الأزهر، غير مرّة، أنّه لا يمثلها، كما يمثّل فرسان التنوير مخلص بحيري، بعد نجاحه المدوّي في دور سيد كشري، في المسلسل التنويري "لن أعيش في جلباب أبي".
تأتي المناظرة التلفزيونية التاريخية في وقت تتّخذ فيه الدولة المصرية قراراتٍ لا تقلّ تاريخيّة عن المناظرة، وإن كانت المناظرة أكثر أهمّية، بالتأكيد، إذ تعتزم مصر إلغاء معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، وفق تسريبات، ويعتزم القائد الأعلى للقوات المسلحة التوجيه بحماية الأمن القومي المصري، المُهدّد منذ بداية الحرب، كما تعتزم مصر الالتحاق بجنوب أفريقيا في دعواها ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، وهو ما اكتشفته الإدارة المصرية الرشيدة بعد 220 يوماً من حرب الإبادة.
هل يتجاوز العرض هزليّته إلى سوقيةٍ غير مسبوقة؟ هل يبدو النصّ ضعيفاً، ركيكاً، مباشراً، فجّاً، مكشوفاً، زيادة عن اللازم؟... هذا هو، لكنّه لن يفشل، رغم معرفة الأطراف، كافّة، بحقيقة المسرحية، وطبيعة الأدوار، لكنّ الجميع سينفّذ، سواء أكانوا المُستفيدين، أبطال العرض "الربّانيين"، و"السنيدة" "التنويريين" أم الجماهير غير المُستفيدَة، بل المُتضرّرَة في دينها ووطنها وسوائها النفسي، سيؤدّي الجميعُ دورَه، طوعاً أو كرهاً، ممثّلين أو متفرجين متفاعلين بالضحك والبكاء والتصفيق، والنقاشات التي تبدو جادّة، فيما لا شيء جادّاً، هنا والآن، سوى حاجة السواد إلى مزيد من الأفيون.