عن الملحد الذي لا يمثّل الإلحاد

24 ديسمبر 2024

(محجوب بن بلّة)

+ الخط -

ثمّة تحليل ثقافوي بائس أن الدين بالضرورة مصدر العنف والإرهاب، وأنه في ذاته محفّز على انتهاك الآخر، أيّ آخر، ورغم أن الحروب الدينية تاريخياً لم تكن سوى حروب توسّعية، جرى توظيف الدين فيها لإضفاء قداسة على أهداف دنيوية، بعضها شديد الدناءة، حتى يقدّم الجندي حياته راضياً من أجل مجد أصحاب العروش، إلّا أن هذا التحليل، على بداهته، يظلّ هامشياً أمام خراطيم الأباطيل التي تقذف بها شاشات الدولة الحديثة في وجوه مواطنيها، لقلب المعادلة من دولة تحاول توظيف الدين خدمة لأهدافها، إلى دين يحاول القضاء على الدولة لخدمة أهدافه.
من هنا كان الفصل "العدواني" (أحياناً) بين الدين والدولة واجباً لحماية المواطنين من العنف الديني، ومن هنا كان احتكار الدولة العنف غير المشروط مبرّراً لحماية المواطنين من الإرهابيين المتديّنين، ومن هنا كان تجاوز الدولة الشرط القانوني في ممارسة العنف مع معارضيها وخصومها، الإرهابيين بالضرورة، مبرّراً، ومفهوماً، ومطلوباً، ووطنياً، فالدولة في الغرب تقتل الإرهابيين كي يصيروا ديمقراطيين وليبراليين، والدولة في بلادنا تقتل معارضيها كي يصيروا مواطنين صالحين وشرفاء ووطنيين.
لقد استطاعت الدولة الحديثة توظيف الدين مرّة أخرى لخدمة أهدافها، ولكن بطرق أكثر ذكاء، فقد تحوّل الدين من دافع الحرب في دولة القرون الوسطى، إلى "الشرّير" في رواية الدولة الحديثة، التي تقف على مسافة واحدة من عقائد مواطنيها، ما عدا الإرهابيين المسلمين أو الإسلاميين، حسب موقعك في الخريطة.
هذه هي المعادلة الجديدة إذاً، دين شرّير ضدّ الدولة، ودولة تقاوم الشرّ وأهل الشرّ، وهي معادلة تجد بعض الوجاهة في ممارسات قطاع لا بأس به من المتطرّفين الدينيين، إن وجدتهم الدولة توظّفهم، وإن هدأوا تحفّزهم وإن غابوا تخترعهم.
لكن الواقع اليومي يكشف إرهابيين آخرين من منتجات هذه الدولة الطيّبة، والحادث هذه المرّة في مدينة"ماغديبورغ شرق ألمانيا، حيث دعس مواطن ألماني من أصول سعودية، المارّة بسيارته في سوق عيد الميلاد، في 20 من الشهر الجاري (ديسمبر/ كانون الأول)، ما أدى إلى مقتل خمسة أشخاص، أحدهم طفل، وإصابة أكثر من200 آخرين. المتّهم ملحد، وطبيب نفسي (ليس مريضاً)، وعمره 50 سنة، جاء من السعودية لاجئاً إلى ألمانيا، لعلّة التحوّل من الإسلام إلى الإلحاد، يعرّف نفسه بوصفه ملحداً، ويقدّم المساعدة للحالات المشابهة، خاصة النساء، وتشير صفحته في "فيسبوك" إلى انحيازات واضحة لنسخة علمانية متطرّفة، ليس ذلك فحسب، بل إنه يبادر مراراً بتسجيل اسمه في كشوف أعداء الإسلامويّين الأشرار، ومطالبة الدولة الألمانية بالمقاومة الجادّة لهم، مزايداً على الدولة في موقفها "المتهاون" من هؤلاء الأشرار، ويرى في قبول لاجئين مسلمين لا يشاركونه تصوّراته العدوانية عن الإسلام تساهلاً مع الإرهابيين، ومن ثمّ فهو يدعم اليمين المتطرّف في ألمانيا. مواطن مثالي في عدائه لما هو عنيف وشرير وإرهابي، لكنّه بدوره إرهابي. فلماذا؟
لا يقتصر الأمر على حالة فردية لا تمثّل الإلحاد الوسطي الجميل كما سخر بعض روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، فالحالة موجودة بصياغات مختلفة، ولا يمكننا تجاهلها أو التهوين منها لمُجرَّد أن أصحابها لا يمتلكون (إلى الآن) جرأة الملحد السعودي في تحويل غضبه جريمةً. ثمّة دراسات جادّة، أغلبها غربية (مع الأسف!) تحاول دراسة الأسباب الحقيقية لظاهرة "الإرهابي"، بعضها يرى في التطرّف الديني أحد الروافد، وبعضها لا يعفي الدين نفسه، لكنّها تتّفق جميعاً في أن الظاهرة أعقد من مُجرَّد أفكار دينية تدفع أصحابها إلى أن يكونوا قتلة ومقتولين. فثمّة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية، يدور أغلبها حول ترتيبات الدولة، ومن دون الوقوف على هذه الأسباب، ومعالجتها، فالظاهرة موجودة، ومستمرّة، وقد تتّخذ صوراً أكثرَ قبحاً وأكثرَ عنفاً وأكثرَ استعصاءً على الحلّ. لكنّ ذلك كلّه لا يخصّنا في الوطن العربي، فقد بادر التنويريون الحكوميون، وفوراً، وبعد دقائق من الحادث، بتفسيره بوصفه نتيجة طبيعية لكون الملحد سعودياً، ما يعني أنه إرهابي بالفطرة وبالثقافة وبالجينات.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان