مرآة المقهى

29 يناير 2024

(عبد الرحمن السليمان)

+ الخط -

هناك مرافق وأنشطة يمكنها أن تشكّل ترمومتراً أو مقياساً يُتابع من خلاله أيّ تغيّر وتحوّل في الحياة الاجتماعية، بل من خلاله يمكن أيضاً تلمّس حتى طبيعة التفكير الجماعي، كالمسرح، مثلاً، ومدى الإقبال عليه، أو السينما وطبيعة روّادها بين شباب وكهول، كذلك ملاعب كرة القدم يمكن أن يشكل الإقبال عليها من عدمه نظرةً على طبيعة تفكير أي مجتمعٍ وتحوّله. أيضاً أنشطة المكتبات العامة ومعارض الكتب وحركة الدخول والخروج منها، ذلك كله يمكنه أن يعطينا لمحةً عن أي مجتمعٍ والتغير الحاصل فيه بين حقبةٍ وأخرى.
بدأت في مسقط تنتشر بكثرة المقاهي العامة، وربما كان ذلك بسبب الحاجة الجماعية إليها متنفّساً وساحة للقاءات وتبادل الأحاديث، وأحياناً طلباً للعزلة والانفراد بكتابٍ أو جهاز حاسوب، بعد أن صارت المجالس القروية مهجورة، واقتصرت صحونُ البيوت على الأقارب والخواصّ. وقد تلمسّتُ ذلك من خلال تنقّلي بين أكثر من مقهى في الأسبوع، وأحياناً في اليوم الواحد في العاصمة مسقط. 
انتشر قديماً في عُمان ما تُعرف بالسبْلة وجمعها سبُل، وهو مجلسٌ كبيرٌ للرجال، يوجد في كل قرية عُمانية تقريباً، يجتمع في صحونها الضيوف الوافدون على القرى أو أهالي القرى أنفسهم من أجل اللقاء وتبادل الأحاديث، خصوصاً في الوقت المتّسع بين صلاتي العصر والمغرب. وكانت هذه السبُل تقتصر على الذكور دون النساء، حيثُ تجتمع النساء في صحون البيوت أو  على أعتابها في ما سمّيت التعصيرات. وتكون هذه السبلة عادة تطلّ على ساقية مسطّح مائي صغير، وهو ما يعرف محلياً باسم الفلج. وعلى صوت خرير الماء، يتم تبادل الأحاديث وشرب القهوة المحلية الخفيفة وازدراد التمر بأنواعه، وهو الزادُ الغالبُ في تلك الأيام، إلا في حالات المواسم، حيث تُضاف فاكهة المانغا في بعض القرى التي تعرف بكثرة هذه الثمرة، وأحياناً بالفائض منها، مثل قرى ولاية قريات على بعد حوالي مائة كيلومتر من العاصمة مسقط.
حين تغيّرت الحياة وبدأ الناس يفدون للعمل إلى مسقط من كل مكانٍ في عُمان، كان هناك من اختارها سكناً طويلاً فبنى فيها مسكنه الجديد. وسيكون في هذا المسكن الجديد مجلسان أو سبلتان بدل سبلة واحدة للرجال، كما كان عليه الأمر في القرية، حيث ستُضاف في البيت الجديد سبْلة أخرى للنساء. وسيكون ذلك كله في قلب المنزل، بعد أن كان في فضاءٍ مفتوح في وسط  القرية ومطلّ على ساقية ماء الفلج. كما أن معظم السكان غرباء عن بعضهم في المدينة، ولذلك تأخذ الحياة فيها طابعاً من القطائع والحذر، ولا يجتمع في البيوت إلا الأصدقاء والأهل والمعارف. ومع الوقت، ينضم إليهم الجيران، لكن ليس قبل أن يصيروا معارفَ موثوقين، وسيتم ذلك ببطء شديدٍ، حيث سيساهم المسجد غالباً في تعريف الجيران بعضهم ببعض. ويمكن أن يُضاف أيضاً من أروقة التعارف العمل ولقاءات الأسواق. غدت السبلُ أو المجالسُ العامة المفتوحة في القرى شبه مهجورة، رغم ما كلّف بناء بعضها من أموال. ولم تعُد بعض السبل العامة تفتح إلا في المناسبات الموسمية، كالأعياد أو في فترات العزاء، إذ إنها تتميّز بالسعة، ويمكنها أن تستوعب أكبر عدد من الوافدين، وعلى دفعاتٍ كبيرة طوال فترة العزاء التي تستمرّ ثلاثة أيام متوالية، وهو ما لا تستطيعه مجالس الرجال والنساء في البيوت.
مع الوقت، صار كثيرون من الناس يفضّلون الالتقاء بمعارفهم الجدد في المقاهي. المقاهي التي جمعت، في وقت واحد، السبْلتين، سبلة الرجال وسبلة النساء في جوٍّ من الثقة والألفة، إذ يمكنك الآن ملاحظة ذلك بسهولة، حين تزور أياً من مقاهي العاصمة، سواء المستقلة في مبنى خاصٍّ بها، أو الموجودة في قلب "مول" تجاري كبير. ستجد زملاء دراسة منكبّين على دفاترهم من الجنسين، يمكن أن تجد كذلك امرأةً مع أطفالها لا يلبث الأب العائد من قضاء عملٍ حتى ينضمّ إليهم. وستجد، وهذا هو الغالب، فتاة منشغلة بجهاز حاسبوها، أو شابّين يتبادلان أطراف الحديث بنبرةٍ أقرب إلى الهمس. بدأت العينُ تعتاد هذا الأمر، وربما سيعتاده العقل أيضاً، مع الوقت. 

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي