مذكّرات طاهر المصري .. إخفاء وإفصاح وتدوير الزوايا المنفرجة

01 اغسطس 2022
+ الخط -

يُسمّون نابلس دمشق الصغرى، ربما لأن التجارة والصنائع والحرف تحتل مكانة مهمة في حياة هذه المدينة الريفية على غرار دمشق. والراجح أن وصف نابلس بـِ "دمشق الصغرى" جاء من أن بعض عائلاتها تتحدر من الشام، وبالتحديد من مدينة حماة ومحيطها مثل أغوات آل النمر وآل طوقان. وحتى اليوم ما برح "تل طوقان"، بالقرب من حماة، يُدعى بهذا الاسم. وآل طوقان هم من عرب الموالي النازلين في لواء حماة، وهم أبناء عمومة لآل أبو ريشة الذين كانت مضاربهم تمتد من منبج (هيرابوليس) إلى البلقاء. ومن أصلاب آل أبو ريشة، تحدّر الشاعر الكبير عمر أبو ريشة (والدته من آل اليشرطي في عكا). أما آل النمر فهم أبناء عمومة لحًّا لحًّا لآل المهايني أغوات حي الميدان الدمشقي المشهور. وهؤلاء جميعًا كان لهم نصيبٌ في إسباغ نمط الحياة الشامية على مدينة نابلس، خصوصًا في مبانيها وفنون تجارتها وضروب عيشها. ودمشق نفسها وثيقة الصلة بنابلس، لا لأن نابلس من مدن بلاد الشام، بل لأن النابلسيين ما فتئوا يهاجرون إلى دمشق، منذ أن هاجر آل قدامة من بلدة جمّاعين إلى حاضرة بلاد الشام في أثناء حروب الفرنجة، وأقاموا في حي من أحياء المدينة عُرف بحي الصالحية لكثرة العلماء والأولياء فيه، وكان أشهرهم المتصوّف المعروف وفقيه الشام عبد الغني النابلسي. وعائلات نابلس، في معظمهما، تجّار وأغوات وأعيان وحرفيون يعتاشون من معاصر الزيتون وصناعة الصابون والحلويات وأنوال الحياكة. 
من أشهر عائلات نابلس آل المصري؛ لكن هذه العائلة، خلافاً لعائلات أخرى كثيرة، لا تعود في جذورها إلى الشام بل إلى مصر، ولا سيما إلى بلبيس وأبو كبير. وقد جاء أجداد هذه العائلة إلى فلسطين مع حملة إبراهيم باشا على الشام في عام 1831، ولم يرحلوا معه حين رجع إلى مصر في سنة 1840. وفي عصر إمارة شرق الأردن ثم المملكة الأردنية الهاشمية، تولى أعيان آل المصري بعض الوزارات، أمثال حكمت طاهر المصري ومنيب رشيد المصري وعوني المصري ومنذر المصري وسليمان حافظ المصري وسعيد بهاء المصري، وكان لمعزوز المصري شأن مهم في السياسة والتجارة. وكي لا تختلط الأصول، فإن الوزير الأردني (السابق) وليد محيي الدين المصري لا تربطه أي قرابة بعائلة المصري النابلسية؛ فهو من إربد الحورانية. ومعظم عائلات إربد من حوران، أمثال آل الشرع والمسالمة والزعبي ودخل الله والمحاميد والكناكري والإزرعي والعودات والصمادي والعوّادي (نسبة إلى خربة عوّاد).

تقلّب المصري في مواقع شتى، فبدأ موظفًا، ثم صار نائبًا ووزيراً ورئيسًا لمجلس الوزراء ورئيسًا لمجلس النواب وعينًا ورئيسًا لمجلس الأعيان

الحقيقة بيضاء أم عارية 
أصدر طاهر المصري مذكّراته أخيرا، ووسمها بعنوان "الحقيقة بيضاء: سيرة عشناها ونرويها" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت – عمّان، 2021، جزآن، 829 صفحة). وكلمة "الحقيقة" تتحوّل دائمًا إلى سؤال لجوج كلما صدرت سيرة ذاتية لأحد الأعيان أو القادة أو المشاهير، لأن "الحقيقة" صارت مقولة فكرية مثل أي مقولة أخرى، حتى أن الفيلسوف البريطاني النمساوي، كارل بوبر، كان يصرّ على أن أي حقيقة ليست حقيقة إلا لأننا لم نتوصل إلى إثبات عكسها. والحقيقة عند بوبر هي الحقيقة الفلسفية، فيما "الحقيقة" في هذه السيرة هي مدى صدقيتها وليس أكثر. ومهما يكن الأمر، فإن صفة "بيضاء" التي منحها طاهر المصري لسيرته هذه تحيل إلى الطهارة التي ربما كان لها نصيب من اسم صاحبها. أما "الحقيقة العارية" فهي تعني الحقيقة من دون أي أقنعة أو ستائر، أي صافية تماماً، لأن العُري في الأصل هو النقاء، وقبل ارتكاب آدم وحواء الخطيئة في الجنة كانا عاريين. والملابس، بهذا المعنى، مرتبطةٌ بالخطيئة، بينما العري مرتبط بالطهارة والفضيلة. والسيرة عمومًا لا يمكنها أن تكون تاريخ صاحبها كما حدث فعلاً، بل هي إعادة بناء للتاريخ الشخصي. ومن غير الممكن استرجاع الماضي كما جرى حقًا. والذاكرة هنا، في هذا الحقل من الكتابة، تعيد بناء الماضي بمقادير تزيد أو تنقص، فتهدم وقائع وتبني ذرائع وتكتم ما تريد وتبوح بما تريد، وتضع، في نهاية المطاف، المثال الذاتي لصاحب السيرة بحسب ما يرغب ويريد. ومن هذا المدخل سأستكشف سيرة طاهر المصري وتفصيلاتها وحقائقها وبياضها.
هذه السيرة هي قصة حياة شخص منذ مولده في نابلس في 5/3/1942 حتى بلوغه الثمانين. وهذا الشخص بدأ حياته السياسية في 2/5/1973 مع انتخابه نائبًا في مجلس النواب الأردني، أي أن سيرته تتناول خمسين سنة من الحوادث السياسية وتغيرات الأحوال. وقد تقلّب طاهر المصري في مواقع شتى، فبدأ موظفًا، ثم صار نائبًا ووزيراً ورئيسًا لمجلس الوزراء ورئيسًا لمجلس النواب وعينًا ورئيسًا لمجلس الأعيان. وفي هذه الحال، نتوقع أن نعثر في سيرته على ما يفكّ مغاليق الأسرار أو يزيح الأستار عن الحقائق المتخفية وراء غلالات التاريخ القريب. وكان طاهر المصري ألّف الحكومة الخمسين في عهد الملك حسين، والسابعة والسبعين منذ إعلان المملكة الأردنية الهاشمية في 25/5/1946. وعاشت حكومته نحو 150 يومًا فقط من 19/6/1991 حتى 20/11/1991، ولم يعد إليها بعد، فيما ألّف توفيق أبو الهدى الحكومة 12 مرة، وبهجت التلهوني وسمير الرفاعي ست مرات، وإبراهيم هاشم ووصفي التل خمس مرّات، ومضر بدران أربع مرات. والمعروف في تاريخ إمارة شرق الأردن أن أول خمس حكومات ترأسها ثلاثة سوريين، رشيد طليع (من أصول لبنانية) ومظهر رسلان وعلي رضا الركابي.

نشر المصري 16 وثيقة مكمّلة للمذكّرات، علاوة على عدد كبير من الصور المرافقة. ومع ذلك، قلما كشفت المذكّرات أسرارًا أو أزاحت اللثام عن خفايا الوقائع

ماذا في المذكّرات؟
تحتوي المذكّرات معلومات جيدة عن مؤتمر مدريد للسلام (30/10/1991) وعن التحالفات والتخالفات بين الأردن والسعودية والعراق وسورية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وتسهب المذكّرات في الكلام على فك ارتباط الأردن بالضفة الغربية (1988)، وعلى تنافرات أهل الحكم في الأردن وتناقضاتهم والمكائد التي لا يتورّعون عن نسجها، وعلى العلاقة بين الحكومة ومجلس النواب، والأشراك التي لم يتردّد كثيرون في نصبها، مثل محاولات رئيس الوزراء ومدير المخابرات ووزير الداخلية، الأسبق، أحمد عبيدات، الدائمة لإزاحة علي غندور من رئاسة مجلس إدارة شركة "عالية" للطيران، فلما لم يتمكّن، انثنى لتعطيل مهمات غندور بقدر ما يستطيع (الجزء الأول، ص 159). لكن طاهر المصري لا يوضح دوافع عبيدات إلى هذا المسلك ألبتة. وتتضمن المذكّرات عرضًا جيدًا لموقف الملك حسين من اتفاق أوسلو ومخاوفه من تبعاته، فقد كان الملك مستاءً وغاضبًا إلى أبعد الحدود، غداة الكشف عن لقاءات أوسلو السرّية، وشعر بطعنة في الظهر وجهها إليه الأميركيون (الجزء الثاني، ص 67 و68 و69). لكن هذه المذكّرات تمر باتفاق وادي عربة الأردني – الإسرائيلي مرورًا عابرًا، ولا تمنحه أي وزن، وتكاد لا تذكر شيئًا عنه، إلا أن صاحب المذكرات رافق الملك حسين إلى واشنطن لتوقيع  "إعلان واشنطن" في 24/7/1994 (الجزء الثاني، ص 76)، ثم لم يحضر مراسم توقيع معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية في وادي عربة في 26/10/1994. ومن الموضوعات اللافتة التي عالجتها المذكّرات حكاية ولاية العهد التي نقلها الملك حسين من أخيه الحسن إلى ابنه عبد الله، وكيف تكرّرت الحال مع  الملك عبد الله حين نقل ولاية العهد من أخيه حمزة إلى ابنه الحسين، وكيف راحت الملكة نور (اسمها ليزا حلبي، وهي من أصول سورية) تبكي حين علمت أن الملك حسين نقل ولاية العهد من ابنها حمزة إلى ابنه عبد الله، خلافاً لما كان قد وعدها به (الجزء الثاني، ص 127-137). 
لا تاريخ بلا وثائق، وحسنًا فعل طاهر المصري حين نشر 16 وثيقة مكمّلة للمذكّرات، علاوة على عدد كبير من الصور المرافقة (140 صورة و16 نيشانًا). ومع ذلك، قلما كشفت المذكّرات أسرارًا أو أزاحت اللثام عن خفايا الوقائع، فجاءت بعض فصولها باردةً مثل البيانات الحكومية أو تقارير السفراء إلى  وزارات الخارجية. وكتابة المذكّرات تفترض التنقيب عن الأخبار وكشف خزائن الأسرار، وهو ما لم تفعله هذه السيرة، ولم تتجرّأ عليه في أغلب الأحيان؛ فالحكمة الجارية، كما تبدو لي، هي: "اتّعظ بما نابك واكتم ما أصابك". ولم يتعمّد طاهر المصري صيد الفضائح قط، وهذا حسن بالطبع، مع أن للنميمة مكانًا في أروقة النظام الأردني، كالقصر الملكي ووزراة البلاط والديوان الملكي والمخابرات، وهو ما عكسته بعض العبارات مثل "وصل إلى مسمعي" (ص 113)، و"نما لعلمي" (ص 56)، و"تناهى إلى أسماعنا" (ص 182). وقد أشاعوا عن طاهر المصري أنه ردّد كلامًا عن أن الملكة رانيا وأخاها مجد الياسين توسّطا لخالد شاهين المتورط في قضايا فساد وأخرجاه من السجن بكفالة" (الجزء الثاني، ص 321). وفي هذا المجال قرأنا في المذكّرات حكايات علي أبو الراغب وعبد الرؤوف الروابدة وسميح البطيخي ورندة حبيب، وهي حكاياتٌ مسلية، وربما لها أهمية لدى أردنيين كثيرين، لكن لا قيمة تاريخية لها قط. وتكشف المذكّرات، في ما تكشف، أن مدير المخابرات (الأسبق) سعد خير هو الذي صادر الأرصدة العراقية في المصارف الأردنية (الجزء الثاني، ص 189) بذريعة استخدامها في دفع حقوق التجار الأردنيين على العراق، وأن الباقي سُرق بعدما كان حساب الحكومة العراقية في المصرف المركزي الأردني يصل إلى مئات ملايين الدولارات (الجزء الثاني، ص 249). وهذه الواقعة ينطبق عليها المثل التالي: "لولا النواطير لكانت الكروم تحمل القناطير". وثمّة عرض جيد لقصة عطاالله عطاالله (أبو الزعيم)، وكيف رغب المطبخ السياسي والأمني للملك حسين في جعله "الزعيم المقبل" للفلسطينيين. والمطبخ السياسي ذاك كان مؤلفًا من زيد بن شاكر وزيد الرفاعي ومروان القاسم وعدنان أبو عودة ومدير المخابرات طارق علاء الدين (الجزء الأول، ص 217 – 220).  وهؤلاء كانوا، كما يلوح لي، يكيلون بكيلةٍ مغشوشة، ثم يكتالون من مستودع الأشياء المهملة. وما لم يدركه ذلك "المطبخ" أن ياسر عرفات الحذر والمتيقظ كان يحتفظ لكل لحيةٍ بمقص، ولكل ذقنٍ بمشط، وعنده أن الذبّان يعرف جيدًا لحية اللبّان.

ياسر عرفات يرافقه طاهر المصري  في عمّان ثمانينيات القرن الماضي (Getty)

غرائب وطرائف وحكايات
كاتب السيرة نصف مؤرّخ، أي أن عليه أن يدقق ويتحرّى ويتنبه لأي فجواتٍ في روايته. وفي هذه السيرة، حاد طاهر المصري، أو تغاضى، عن أمورٍ ما كان يجب أن تخلو منها سيرته، مثل اغتيال وصفي التل على مدخل فندق شيراتون في القاهرة (28/11/1971). ولم يتحدّث عن حادثة اعتقال محمد داود عودة في عمان في عام 1973. رُبّ قائل إن طاهر المصري لم يكن في تلك الحقبة جزءًا من هيكل النظام الأردني. لكن، من المفترض أن يكون قد علم ببعض تفصيلات الحادثتين حين صار جزءًا من النظام في ما بعد. وفي مجال موازٍ يقول، وكأنه يصرّ على استنتاجه، إن فهد القواسمة دفع حياته ثمنًا للخلافات في داخل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بين الموافقين على الاتفاق الأردني – الفلسطيني وغير الموافقين عليه، وإن الاتحاد السوفياتي المعارض للاتفاق نقل المعركة إلى داخل اللجنة التنفيذية (الجزء الأول، ص 183). غريب هذا الاستنتاج! ما علاقة الاتحاد السوفياتي باغتيال فهد القواسمة؟ المعلومات المؤكّدة باتت مكشوفة للجميع، وهي تقول إن الذين اغتالوا الرجل هم مجموعة من المنشقين عن حركة فتح بقيادة أبو خالد العملة، ولا صلة لغير الموافقين على الاتفاق في داخل اللجنة التنفيذية بهذه الجريمة. وما حصل أن أبو خالد العملة أرسل، قبيل عقد المجلس الوطني الوطني الفلسطيني في عام (1984)، مجموعة مسلحة بقيادة نايف البايض لاغتيال عضو المجلس محمود تيم (بعثي). والغرض إعاقة عقد المجلس الوطني. ولما فشلت المجموعة في تنفيذ هدفها طلب منها أبو خالد العملة اغتيال أي شخصية فلسطينية ممن حضروا المجلس، فرفض شاكر العبسي، الذي تزعم لاحقًا منظمة فتح الإسلام الإرهابية، تنفيذ الأمر، وعاد متسللًا إلى سورية، فيما اغتالت بقية المجموعة فهد القواسمة في 29/12/1948. وقد اعتُقل نايف البايض وأعدم في عمّان. ألم تصل إلى دولة طاهر المصري تقارير الاستخبارات في هذه القضية المؤلمة؟ وحسنًا فعل طاهر المصري حين لم يمنح حكاية محاولة صلاح خلف (أبو إياد) اغتيال الملك حسين في أثناء عقد القمة العربية في الرباط (26/10/1974) غير عشرة أسطر (الجزء الأول، ص 70)، لأن تلك الحكاية ملفقة، ولا رأس لها ولا ذَنَب. 
تكشف هذه المذكّرات بعض الخفايا ذات الدلالة، فيورد صاحبها أن السفير الأردني في الصين، كمال الحمود، اتصل بطاهر المصري الذي كان وزيرًا للخارجية، وأخبره أن هناك أشخاصًا غير أردنيين يرتدون الزي العسكري الأردني، وهم في زيارة رسمية إلى الصين، ويخشى أن تكون وراء ذلك مخاطر ما. وتبين، بعد مراجعة زيد بن شاكر، أن هؤلاء ضباط عراقيون يحملون جوازات سفر أردنية بالتنسيق مع الجيش الأردني، وهم يتفاوضون مع الصين لشراء أسلحة. وجوازات السفر الأردنية تساعدهم في التضليل وتجنّب الحظر الدولي. وكانت العمولات التي تلقاها الضباط والمتنفذون المدنيون والعسكريون عالية جدًا (الجزء الثاني، ص 237 و238). ورواية طاهر المصري عن خطبة ياسر عرفات أمام الجمعية العامة في الأمم المتحدة التي نُقلت إلى جنيف، لأن وزير الخارجية الأميركي في حينه، جورج شولتز، رفض منح عرفات تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة صحيحة، لكنها ناقصة (راجع الجزء الأول، ص 238 و239). وما جرى آنذاك هو التالي: وضع شولتز ثلاثة شروط لبدء الحوار الأميركي مع منظمة التحرير الفلسطينية: الاعتراف بالقرار 242، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ونبذ الإرهاب. وأبلغ وزير خارجية السويد، ستين أندرسون، ممثل جامعة الدول العربية في الأمم المتحدة، كلوفيس مقصود، بهذه الشروط لنقلها إلى ياسر عرفات. وفي 13/12/1988 عقد ياسر عرفات مؤتمرً صحافيًا في جنيف لإعلان موقفه الجديد المتضمن الشروط الثلاثة، فقال في أثناء كلامه: I renounce terrorism، أي أنا أتخلى عن الإرهاب. فعلّق بعض الحاضرين بالقول: هذا غلط، عليك أن تقول I denounce terrorism أي أنا أنبذ وليس أتخلى Renounce. ولمّا أراد أبو عمار تصحيح عبارته قال: I denounce Tourism أي أنا أدين السياحة، وضحك الجميع وسارت الأمور بشكل إيجابي. ومن عجائب الكلام في هذه المذكّرات أن صاحبها مدّد ياسر عرفات على سرير التحليل النفسي، وراح يستكشف عقله الباطن، ليستنتج أن ثمة رهابًا (فوبيا) يلازمه دائمًا فيخشى من أن يحلّ في محله شخص ما، وقد اعتقد عرفات أن طاهر المصري القريب من الملك، والذي يحظى بمكانة سياسية في الأردن، وهو من عائلة فلسطينية معروفة، ربما يكون هو الذي سيحلّ في محله (الجزء الأول، ص 201). حسنًا، يمكننا احتمال طاهر المصري محللا سياسيا، أما أن يكون محللاً نفسيًا لياسر عرفات فتلك أملوحة لا طعم مالحاً لها ولا حلواً. ومن طرائف المذكّرات أن طاهر المصري زار دولة اليمن الجنوبي، وفي منزل وزير الدفاع علي عنتر، وبينما كان يشرح له أهداف الاتفاق الأردني – الفلسطيني وغاياته، قاطعه علي عنتر بالقول: لقد حرمتني من جلسة تخزين القات التي نعقدها في كل خميس، وهو ما ألجأ طاهر المصري إلى مغادرة المنزل فورًا (الجزء الأول، ص 192).

طاهر المصري كانت تعتريه المفاجآت دومًا؛ فقد فوجئ بإعلان فك الارتباط الأردني – الفلسطيني، وبإغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية

طاهر المصري والديمقراطية 
لم تتمكّن حكومة طاهر المصري من تطبيق وعود التحوّل الديمقراطي، وإشاعة مزيد من الحريات العامة في الأردن بعد الانتخابات النيابية التي أعقبتها حكومة مضر بدران، والسبب، بحسب ذرائع طاهر المصري نفسه، هو مؤتمر مدريد للسلام في 30/10/1991، وانشغال حكومته بذلك المؤتمر، الأمر الذي حال دون الاستمرار في ترسيخ التحوّلات الديمقراطية، ولم يتسنَّ لها إنجاز تلك الوعود. وقد انتظر الناس حكومة زيد بن شاكر التي تألفت بعد استقالة طاهر المصري في 21/11/1991 لإلغاء قانون مكافحة الشيوعية والأحكام العرفية. ومن الجدير بالاحترام اعتراف طاهر المصري في هذه المذكّرات بأنه لم يكن ديمقراطيًا؛ فقد صاغت حكومته قانونًا للمطبوعات والنشر عارضه بشدة الصحافيون والإعلاميون ما أدّى إلى تعديله. ووافق صاحب المذكّرات على طلب المخابرات إغلاق صحيفة اللواء الأسبوعية التي نشرت تحقيقًا ضد السعودية بتمويل ليبي (الجزء الأول، ص 361)، وكان في الإمكان إحالة الصحيفة أمام القضاء المختص بدلاً من إغلاقها. ويعترف بأنه وافق على تسليم شخص من آل الفاسي [علال الفاسي شقيق هند زوجة الأمير تركي بن عبد العزيز] إلى السعودية (الجزء الأول، ص 362)، وكان في إمكانه ترحيله عن الأردن بدلاً من تسليمه. ويروي أنه كان في زيارة إلى واشنطن في سنة 1985 بصفته وزيرًا للخارجية، ولبى دعوة إلى العشاء في منزل سيدة أميركية يهودية حضرها زعماء اليهود الأميركيين. لكن السفير الأردني إبراهيم عزالدين اعتذر عن عدم مرافقته إلى العشاء لأن صاحبة الدعوة يهودية. وأدّى موقف السفير ذاك إلى سحبه من السفارة وإعادته إلى عمّان بعد أسابيع (الجزء الأول، ص 178). وهذه العقوبة قاسية، خصوصًا أن سببها يعود إلى موقف مبدئي. أَليس هذا العقاب تعسّفًا في استعمال الحق الإداري؟ ويعترف طاهر المصري بأنه رفض طلبًا للملك حسين بقبول إقامة فلسطينيين من غزة يحملون وثائق سفر مصرية اضطرّوا إلى مغادرة الكويت، ولم يجدوا مكانًا يلجؤون إليه، وتقطعت بهم السبل، بعد رفض مصر مرورهم عبر أراضيها إلى غزة (الجزء الأول، ص 363 و364). وفي هذه الرواية كان الملك يطلب ورئيس الحكومة يرفض، ويكرّر الملك الطلب، ويصرّ طاهر المصري على الرفض. يا للهول! من أين له هذه القوة؟ وفي أي حال، لم يخبرنا ما حلّ بهؤلاء المساكين؟ هل أعادهم إلى طريبيل أم ألجأهم إلى الذهاب إلى مخيم الهول في الحسكة؟ إننا نفهم، بأدوات التحليل النفسي الفرويدي، لماذا يتخذ بعض الأفراد مواقف متطرّفة في مثل هذه الحالات، فالغاية هي البرهنة على مزيد من الولاء، ولتأكيد هويته الأردنية، وعلى عدم انحيازه إلى هويته الفلسطينية الأصلية. 
الغريب أن طاهر المصري كانت تعتريه المفاجآت دومًا؛ فقد فوجئ بإعلان فك الارتباط الأردني – الفلسطيني، وفوجئ بإغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، وفوجئ بإبعاد خليل الوزير (أبو جهاد) من الأردن، وفوجئ بإلغاء الاتفاق الأردني – الفلسطيني (الجزء الأول، ص 217)، فماذا كان يفعل إذاً؟ ومع ذلك يقول في الجزء الأول (ص 232) إن مَن وقف وراء قرار فك الارتباط بالضفة الغربية في 31/7/1988 كان وزير البلاط عدنان أبو عودة، ووزير الداخلية رجائي الدجاني.

الملك حسين وحافظ الأسد ويستعرضان حرس الشرف في عمّان (12/6/1975/Getty)

تخبرنا المذكّرات (الجزء الأول، ص 198) أن الملك حسين حين وجّه رسالته المشهورة إلى رئيس الحكومة، زيد الرفاعي، في 10/11/1985، واعترف فيها بتورط الأردن في أعمال إرهاب التي شهدتها سورية آنذاك، وضع اللوم على مدير المخابرات أحمد عبيدات ورئيس الوزراء مضر بدران، ويتساءل الواحد منا في هذا الميدان: هل كان عبيدات وبدران يدعمان الإخوان المسلمين ضد الحكم السوري من تلقاء نفسيهما؟ أم أن ذلك الدعم كان يندرج في سياق السياسة الخارجية للأردن التي كان يتولاها مباشرة الملك حسين؟ والجواب في المذكّرات نفسها التي أفصحت، غير مرة، أن القرارين، السياسي والأمني، مرصودان للملك وحده، وللمخابرات وفريق الملك في وزارة البلاط والديوان الملكي. ومعروف أن مساندة الأردن عمليات الإخوان المسلمين في سورية بين 1977 و1982 كان هدفها ترويض الرئيس السوري حافظ الأسد أو تخويفه جرّاء وقوفه ضد زيارة أنور السادات إلى القدس في 19/11/1977. وقد ترتب على الموقف السوري آنذاك، في جملة مترتباته، البدء في شن العمليات العسكرية ضد الجيش السوري في المناطق المسيحية في لبنان خصوصًا في الأشرفية وجوارها. وتلك العمليات أدارها الموساد وبشير الجميّل مباشرة. ولا يصدق عدنان أبو عودة في حواره مع عامر طهبوب (انظر: "الحديث الأخير"، بيروت – عمان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022، ص 192 و193) حين يقول إن الملك حسين لم يكن يعلم أن الإخوان المسلمين السوريين يتقاطرون على الأردن، وعندما علم "جُنّ جنونُه". 
ومن غرائب ما تكشفه المذكّرات أن الملك حسين حاول الاتصال بالخميني لإصلاح ذات البين مع الشاه محمد رضا بهلوي، فأرسل وزير الأوقاف كامل الشريف إلى باريس، في زيارة رتّبها علي غندور. وقد التقى كامل الشريف صادق قطب زادة ابن أخت الإمام موسى الصدر الذي أُعدم في ما بعد، لكن الخميني رفض لقاء كامل الشريف، وحتى لقاء الملك حسين (الجزء الأول، ص 105 و 106). ويتساءل طاهر المصري: ما الذي دفع الملك حسين إلى الوقوف إلى جانب العراق في الحرب على إيران؟ ويجيب: "كان صدّام يغدق على الأردن الرسمي والشعبي الأموال. وقد أكد لي السفير العراقي نوري الويس أنه سلّم بيده ذات مرة صناديق مليئة بالدولارات إلى الديوان الملكي (...). كما أن الرئيس صدّام حسين أهدى إلى كل وزير سيارة، ودفع مبالغ طائلة إلى مسؤولين آخرين وصحافيين وشخصيات عليا، وتبرّع ببناء مساجد" (الجزء الثاني، ص 240). 
براقع ومواجع 
استخدم طاهر المصري عبارة "لا شِيّة فيها" لوصف مذكراته هذه. وعلى الرغم من التكلف في تحريك كلمات المذكّرات والأغلاط اللغوية الكثيرة المتناثرة هنا وهناك، فإن عبارة " لا شِيّة فيها" تعني أنْ ليس لها لونٌ يخالف لونها الغالب. وهي مشتقةٌ من وشّى الثوب، ومنها ثوب موشّى. ولا شيّة فيها تعني أيضًا أنْ لا علامة فيها، وليس فيها ما يخالف لون جميع الجسم. ومع الأسف، يستعمل اليهود الحريديم العبارة نفسها لوصف البقرة الحمراء التي سيستخدمون رمادها لتطهير جبل الهيكل (الحرم القدسي). وقد زيّن صاحب المذكّرات تاريخ العائلة الهاشمية، وأسبغ عليها من الفضائل والمكارم ما يفوق نصيبها، وجعلها "لا شيّة فيها" مع أنها مثل غيرها من العائلات العربية الحاكمة لها وعليها. والتاريخ القريب يروي عن الهاشميين خلاف ما جاء في المذكّرات، والشاهد على ذلك علاقة الملك عبد الله الأول بالبريطانيين المسؤولين، أولاً وأخيراً، عن نكبة فلسطين، واتفاقاته مع غولدا مئير بعد اجتماعين: الأول في الشونة في أثناء حرب 1948، والثاني في 10/5/1949 بعد توقيع اتفاق الهدنة مع إسرائيل بأكثر من شهرين، ثم توطيد التعاون الوثيق، السياسي والأمني، مع بريطانيا في عهد الملك حسين، بما في ذلك قمع الحريات واضطهاد الحركة الوطنية التقدّمية بعد إسقاط حكومة سليمان النابلسي في سنة 1957، ثم الارتباط بالسياسة الأميركية ارتباطًا أكثر من وثيق منذ إعلان مبدأ إيزنهاور في عام 1957، والتعاون في هذا الميدان على إسقاط الوحدة المصرية – السورية في عام 1961، وإجهاض الميثاق القومي بين العراق وسورية في سنة 1979.